معصومة ابراهيم: «التربية» والاحتشام القهري

لعل من المتفق عليه أن منظومة «القيم» في مجتمعٍ ما، هي المكون الأساسي للايديولوجيا المحركة لأفكار الأفراد وأفعالهم في هذا المجتمع، وهي – كذلك – بمنزلة الإطار المرجعي لتصرفاتهم وسلوكهم في مختلف مواقف الحياة اليومية. ومن ثم فإن القيم أساسية للفرد (على الصعيدين النفسي والاجتماعي)، كما هي ضرورية للمجتمع الذي يستمد قوته من قوة البناء القيمي الداخلي لأفراده جميعا.

لذلك في ظل التحديات المختلفة التي يواجهها مجتمعنا الكويتي، لا بد من النظر أكثر من قبل إلى القيم نظرة شمولية متكاملة الجوانب، من أجل بناء المجتمع المدني والمتحضر الذي نرجوه لنا ولأبنائنا، خصوصا أن منظومة القيم هي التي تحدد طبيعة العلاقات الإنسانية بمفهومها الواسع بين الأفراد، كما تمثل ما يمكننا تسميته «الضمير الجمعي» للوطن.

وفي هذا الإطار يبرز الدور الفاعل للقيم التربوية في تشكيل البناء الشخصي للناشئة، من خلال معايير عقلية ووجدانية تستند إلى مرجعية حضارية قائمة على مراعاة الإرادة الحرة للفرد، ومبنية على الاحترام المتبادل بين الناس القائم على الحوار والإقناع، وقبول مبدأ «التعايش برغم الاختلافات في الآراء والاقتناعات»، بعيدا عن المساس بالحريات الشخصية للآخرين، أو التدخل في شؤونهم.

فلا يصح إذاً، بناء على هذه المعطيات، أن تُخلط الأوراق أمام بعض المؤسسات التربوية، فتتدخل في الحرية الشخصية لمنتسبيها، وتنتهك حقهم في اختيار ما يرتدون من ملابس، بذريعة إلزامهم بقيمة «الاحتشام»، وتتجاهل هذه المؤسسات أنها بذلك تتجاوز سلطاتها التربوية وتفرض نوعا من الوصاية الأخلاقية من ناحية، ومن ناحية أخرى ستضطر إلى القيام بوظيفة تحديد معنى «الاحتشام»، لتقع في مأزق يقودها إلى أن تصادر حرية الطلبة في اختيار ما يرتدون من ملابس، وهو حق لهم ضمن جملة حقوقهم الأصيلة، ما داموا لا يمسون حريات الآخرين أو يعتدون على خصوصياتهم، والدليل أن الأغلبية يتفقون على الاحتشام إطارا عاما للسلوك الملبسي، لكنهم مع ذلك يختلفون في مفهومه ومظاهره!

لذلك، يجب أن ينحصر دور المؤسسة التربوية في ترسيخ القيم الإنسانية العامة التي تضمن صيانة الوجدان الكلي للمجتمع، وتحافظ على الرباط الأخلاقي بين أفراده، وألا تنزلق إلى مواجهة الشيطان «الذي يكمن دائما في التفاصيل»، لأن الاعتراف بالفروق الفردية والثقافية بين الناس يوجب التسامي عن تحديد أشكال الملابس التي يرتديها الطلبة، فليس البشر قطعا متطابقة من «الطابوق»، كما أن للناس حريتهم في خياراتهم، حتى يصبحوا مسؤولين عنها. وهذه الاختيارات يمكن تعديلها بواسطة النصح والإرشاد، لا التضييق والإجبار، فهذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن نسلكه، لنصنع جيلا يتمتع بقيم تربوية حرة وراقية تصقل المواطن الذي هو وحدة البناء الأشمل للوطن، لنضع كويتنا العزيزة في مصاف الدول الحضارية المدنية. والمجتمعات لا ترتقي سلم الإصلاح دفعة واحدة، فكما قال جون ديوي: «لا يمكننا إصلاح مشكلات التربية.. إلا بمزيد من التربية».

أ.د. معصومة أحمد إبراهيم

Dr.masoumah@gmail.com
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.