جاسم بودي: البكاء على أطلال دولة


لا نريد ان نرهق القارئ بالارقام، لكننا لا نريد ايضا أن يتم التعامل مع الأرقام الصادرة من أهم المؤسسات النقدية الدولية بخفة واستسهال لأن بعضها يحمل مؤشرات خطرة ويؤكد أن الكويت متجهة إلى كارثة حقيقية بكل المقاييس، ومن لا يحسن قراءة الأرقام الصعبة… صعب أن يستوعب أن مصلحته اللحظية الراهنة ستكون الرصاصة التي تشارك في اغتيال وطن.
في التقارير الأخيرة للبنك الدولي أرقام تفصيلية تتناول كل ما يتعلق بالحالة المالية للدول. المداخيل والمصروفات والصادرات والواردات وموازين التجارة والعجز والديون وتوابعها والرواتب وتكاليفها وأداء القطاعين العام والخاص وأعباء الموازنات والإنفاق على مختلف القطاعات.
كل ما تبحث عنه موجود في التقارير، بعضه موثق بشكل رسمي من الحكومات المجبرة على تقديم المعلومات وبعضه نتيجة جهد فرق البنك الدولي الخاصة بطلب من الحكومات نفسها أو من دول ومؤسسات مالية عالمية. والإبحار في هذه الأرقام يوفر الكثير من العناء والتفكير والتحليل في أمور كثيرة حصلت بين الدول (نزاعات وحروب وحصار وتضييق وعقوبات) أو داخل الدول نفسها حيث تتوقع الأرقام حصول أزمات مالية أو اقتصادية تصل حد الإفلاس… وهذا هو بيت القصيد.
في تحليلها للناتج المحلي لكل دولة، تنطلق أرقام البنك الدولي دائما من أزمة اسمها الإنفاق الحكومي على مجالات القطاع العام، فبقاء هذا القطاع أسير نمط واحد من الإنفاق اعتمادا على «الدولة الام المانحة الواهبة المعطاءة» يؤدي إلى طريق واحد مهما حاول «المستشارون والخبراء» المحليون تزيين العكس وإعطاء صاحب القرار مسكنات من نوع «نرضي الناس اليوم ورب العالمين يحلها غدا».
نتوقف عند رقمين فقط من اللائحة الطويلة وهما رقمان «محافظان» لأن الواقع يؤكد أنهما أكثر من ذلك. الكويت منذ عام 2009 في تقارير البنك الدولي تحتل بلا منازع المرتبة الاولى في العالم بين الدول الأعلى في الإنفاق الحكومي على الرواتب وكل أوجه القطاع العام. تربعت على عرش «الطريق الى الانهيار» يليها مباشرة وفي المرتبة الثانية دوليا اليونان. اليونان التي أنعم الله عليها بثروات طبيعية متعددة وجزر رائعة وآثار خالدة وتقدمت كثيرا في مجالي الصناعة والزراعة والمنتجات الغذائية… هذه الدولة عندما بدأت عام 2009 تنفق حكوميا على القطاع الحكومي أرقاما ضخمة (وأقل من الكويت) وضعت قدمها في أول طريق الإفلاس الذي أعلنت عنه منذ سنتين وأصابت دول اليورو بانعكاسات قاتلة وما زالت حتى اليوم تتسول (حرفيا) المساعدات من هنا وهناك كي تبقى على قيد الحياة.
نعود إلى الكويت التي تفوقت بالإنفاق على اليونان «المفلسة»، ونقول لكل نائب ومسؤول ومستشار وخبير (وما أكثرهم)، إن فتح الخزائن سهل لضمان الكراسي أو إعادة الانتخاب أو كي تتلافى الحكومة صداما نيابيا – شعبيا… إنما على المدى البعيد ستضيع الكراسي النيابية والحكومية وسيخسر الناس مستقبلهم ومستقبل أولادهم ولو ربحوا «كادرا».
للانصاف فقط. مبدأ فتح الخزائن بهذه الطريقة لم يبدأ مع رغبة النواب في ان يكونوا «شعبويين» بل هو نتيجة سلسلة أخطاء متراكمة ارتكبتها الحكومة واستسهلها مسؤولون كبار. والجميع يتذكر ان سابقة «جنون الإنفاق» ظهرت بشكل ساطع عندما أراد أحد المسؤولين الكبار التخلص من بعض الضباط في مؤسسة عسكرية ولم يكن راغبا في مواجهتهم فجاء بفكرة التقاعد المبكر للضباط مع مزايا ضخمة وكانت النتيجة تسابق الضباط الاصغر سنا على مغادرة السلك وبقاء الرتب الأعلى… وعودوا الى الرقم الذي بلغته العملية آنذاك وتذكروا ما حصل في النفط من إنفاق خيالي لاحقا على الزيادات والكوادر ومحاولات الادعاء بأنها لم تكلف الخزينة فلسا واحدا.
لن نختم بالقول اننا نعبر نفقا مظلما أو نتجه الى المجهول لاننا تجاوزنا حقيقة هذه المرحلة في طريقنا الى الافلاس. ما يحصل ليس توزيعا للثروة بل تبديد وتشتيت لها، فقد يأتي الوقت الذي يعجز معه الدخل عن الوفاء بسداد الرواتب والأجور، ونتمنى ألا يعتبر البعض ما سيحصل «انهيارا اقتصاديا أو اجتماعيا» لان ما سيحصل سيؤدي بالدرجة الاولى الى انهيار سياسي… وعندها سنرى ماذا ستفيد «الشعبوية».

جاسم بودي
المصدر جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.