دوامة العرب التنموية

لا أوافق المحاضر في تركيزه على استحالة التنمية ضمن الدول العربية القائمة حالياً
التنمية التي يفترضها د. صبري عبدالله تشمل كل مجالات الحياة من اقتصاد واجتماع وعلم وثقافة
بعد ان استعرض د. اسماعيل صبري عبدالله في محاضرته بعمان – الاردن – عام 1998، «الأوهام» التي تهيمن على عقول الكثير منا، كنظرية المؤامرة الكبرى وهيمنة الماضوية والمبالغة السياسية والاقتصادية في تقييم واقعنا وامكانياتنا، واستعرض جوانب من الفقر والتخلف في العالم العربي.. تحدث عن العلاج!
«ان في وسعنا ان نشكل مستقبلنا، والا شكله غيرنا وفقاً لمصالحه، ولن نفعل الا اذا خضنا، بكل عزم، معارك حرب التنمية الضارية. فليس هناك «طريق ملكي» ممهد نتهادى فيه او نمشي الهوينا حتى نصل الى عصر الرخاء، وانما تشبه التنمية سباق الحواجز التي لاتنتهي والنجاح في التنمية، في مرحلة معينة ليس ضماناً كافياً للنجاح في مراحل تالية، تجربة «النمور الآسيوية» شاهد على ذلك».
والتنمية التي يقترحها د. صبري في عالم شديد التبدل والتنافس هي «التنمية الشاملة والمطردة»، ويعني بها تلك التي تشمل كافة مجالات الحياة من اقتصاد واجتماع وثقافة، والتي يعم خيرها كل المواطنين، وتحافظ على البيئة».
مثل هذه التنمية القادرة على مواجهة الصدمات الخارجية والتحرر من القيود الخارجية والتي لا تستهين بدور الدولة والتي ترى في الديموقراطية ضرورة لاستكمال المسيرة.
ومن ابرز ماينبه اليه الاستاذ الباحث اذهان التنمويين العرب، هو اننا سنجد انفسنا نتعامل اكثر فاكثر مع الشركات الكبرى «المتعددة الجنسية» في ظل العولمة او «الكوكبة» – كما يصرّ د. صبري على تسميتها – وفي ظل الاسواق الداخلية التي تفتحها اتفاقية «جات 1994» امام المنتجات المستوردة. فالخطر الاعظم اليوم، يقول محذراًَ، «لا ينحصر في علاقات القوى ضمن شبكة المعاملات الدولية، وانما في السقوط خارج هذه الشبكة تماماً، اي في الاستبعاد والتهميش» والآن، ماهي ركائز هذه «التنمية المستقلة»، كما يتمناها د. صبري؟
اولى هذه الركائز، كما جاء في محاضرة الباحث الاقتصادي المعروف في عمان بالاردن، «السوق الكبيرة». فحتى الدول الكبرى وشركاتها الاستثمارية تهمل «الاقطار الصغيرة الفقيرة او التي تشهد انقلابات عسكرية، او اعمال عنف سياسية، او حرباً اهلية».
ولقد رأينا كيف ضغطت هذه الشركات على الحكومة الامريكية للانفتاح على الصين، «رغم كل ماقيل، عن عدم احترام حكومتها لحقوق الانسان، وبرغم انفراد الحزب الشيوعي بالسلطة فيها، ومع العلم بان الصين لا تقدم اعفاءات ضريبية للمستثمرين.. ولم يكتشف الغرب ان «سوهارتو» دكتاتور فاسد، الا حين اهتز بشدة اقتصاد اندونيسيا، وهدد بذلك بعض مصالح الغرب».
وهذا ماحدث كذلك من اقبال المستثمرين على مجال الهند الاستثماري، بشكل كبير تحدث عنه رئيس وزراء الهند عند لقائه بمثقفين مصريين اثناء زيارته لمصر في اكتوبر 1997، وقال ان ثلث الهنود انضموا الى الطبقات الوسطى في الخمسين سنة الماضية اي حوالي 300 مليون.
اما الركيزة الثانية في تصور د. صبري فهي «القاعدة القومية العلمية والتكنولوجية». فالانتاج الحديث للسلع والخدمات، لا مكان فيه لعامل غير مؤهل علمياً، وخير دليل على ذلك ارتفاع اجور العمالة الاجنبية مثلاً وحقوق الملكية الفكرية.
«والمثل الذي يقلقني شخصياًَ»، يقول المحاضر ، «هو عدد أجهزة الحاسوب التي انتشرت في مكاتب وبيوت كثيرة في مصر، والتي اعتقد اننا لا نستخدم من طاقاتها الكاملة الا {c457ccac1452d3818271ab2011cbb9d08c0f4c36d5279f7e8d0cd5e61c92f6ca}10. ومازالت صناعة البرمجيات في الوطن العربي تخطو خطواتها الاولى، في حين ان الهند مثلاً تعد ثاني مصدر للبرمجيات في العالم بعد الولايات المتحدة».
ويكشف د. صبري عن جانب مؤسف من حال البحث العلمي ومراكزه في العالم العربي، الذي نرى في اقطاره العديد من هذه المراكز، ولكنها في اغلب الاحوال لاتعمل كما ينبغي ولا يهتم احد بما تعمل!
يقول: «لقد أنشأت مصر – لاسيما بعد ثورة 1952 – عشرات من مراكز البحث العلمي والتكنولوجي المتخصصة بالاضافة لما انشأته من جامعات، وتضم هذه الوحدات العلمية الألوف المؤلفة من حملة الدكتوراه، ولكنها تبقى طاقة عاطلة، يعلوها صدأ القدم والاهمال».
ومشكلة تعثر البحث العملي وجمود مراكزه مشكلة حقيقية في كل العالم العربي. وحتى الدول الثرية كدول النفط العربية لاتعتمد الدولة فيها او قطاعها الخاص على هذه المراكز، رغم ان انطلاق اي تحول صناعي حقيقي في هذه البلدان، سواء على يد الدولة او الشركات المحلية، بحاجة ماسة الى هذه المراكز لتطوير المنتجات وتحقيق النجاح.
والغريب حقاً ان الدولة تصرف الملايين على هذه المراكز بلا مبرر، وفي الوقت نفسه منها!! ولو كان بعض هذه المراكز المجهزة تحت يد «أعداء الامة العربية والاسلامية»، لأخرجت لنا عجائب المحاصيل والمصنوعات.. والقارئ يفهم!؟
ثالث الركائز في تصور د. صبري لأي «تنمية مستقلة» هو «الاستقرار السياسي»، ولايراد بهذا الاستقرار الجمود بل وجود «آليات سلمية لتداول السلطة بين قوى سياسية»، من خلال الديموقراطية.
ويؤكد المحاضر ايمانه بالفكرة الاشتراكية، رغم كل مايذهب اليه في مجال الدعوة الى تشجيع القطاع الخاص، لما في الاشتراكية من «نزعة انسانية عميقة». ولكنه لا يوافق على نظام الحزب الواحد، اذ «لايجوز ان يكون الانفراد بالسلطة السياسية وحرمان المجتمع من تداولها السلمي، ثمناً للحصول على العدالة الاجتماعية».
ويرد د. صبري على المشككين في قدرة الديموقراطية على تغيير مجتمعاتنا وتحويلها، ويقول ان الديموقراطية توفر الوسائل للكشف عن الفساد ومحاكمة الفاسدين، فقد شنت السلطات الايطالية مثلاً حرباً ضد الفساد والمافيا المتداخلة مع الاحزاب الحاكمة، وادت تلك الحرب الى تصفية شبه كاملة للحزب الديموقراطي المسيحي، الذي حكم البلاد اكثر من اربعين سنة، بعد ان تم حبس ابرز قياداته بامر القضاء، وكذلك «الحزب الاشتراكي»، الذي فر رئيسه الى تونس . غير ان «التنمية المستقلة» هذه، بأركانها الثلاثة كما يراها د. صبري، لا تتيسر لكل قطر عربي على حدة، ولابد من تجميع هذه الاقطار في سوق تضم 260 مليون مستهلك.
وقد جربنا «مجلس الوحدة الاقتصادية العربية» الذي لم ينجح في مهمته، بل ان مجموعات من بلدان العالم الثالث حاولت محاكاة نمط السوق الاوروبية وباءت جميعاً بالفشل، فما السبب؟
اهم الاسباب، يقول د. صبري، هو اعتماد التجربة الاوروبية في نجاحها، بعكس تجاربنا وتجارب العالم الثالث، على التجارة، ثم تحرير حركة العمل ورأس المال فيما بين الدول المشاركة فيها.
«وقد نجحت لانها دول صناعية متقدمة بينها تيارات تبادل قوية لايحد من زيادتها الا الحواجز الجمركية والادارية، ولهذا ما ان رفعت تلك الحواجز، حتى تضاعف حجم التبادل بينها، وهذا عكس الاوضاع في بلدان العالم الثالث».
فمن الحقائق المعروفة مثلاً ان التجارة بين الدول العربية محدودة جداً، مابين 8 إلى {c457ccac1452d3818271ab2011cbb9d08c0f4c36d5279f7e8d0cd5e61c92f6ca}10 من الصادرات والوارات، والكثير من الدول العربية تستورد اشياء متماثلة من الدول الصناعية وتصدر اليها الخامات او بعض المنتوجات. فهي إذن اسواق تسمى بالاسيرة او Captive!
ولكن هل تسمح اتفاقية الجات 1994 للدول العربية بان تتكتل او تتكامل اقتصادياً، بعد ان وقعت هذه البلدان عليها؟ التكامل، يقول الباحث، ليس قلعة محصنة ضد عدو كما توحي احياناً كلمة «التكتلات الاقتصادية»، ومثل هذا التكتل محظور في اتفاقية 1994، القائمة على تعميم شرط الدولة الاولى بالرعاية، ولكنه استثناء يقر بعدم تعمييم المزايا التي تمنحها دول متكاملة لبعضها، حيث نص التفاهم على تفسير المادة 24 على ان «التكامل بين عدد من الدول يرمي الى تيسير التجارة بينها وليس تقييد التجارة ازاء بقية الدول الموقعة على اتفاقية الجات».
وضع د. صبري جمهوره في عمان، وهو يحدثهم عن «الخيارات الاقتصادية العربية في عالم متغير ومتجدد»، امام خارطة تنموية معقدة، تعج بالكثير من القرارات السياسية المطلوبة بشدة على صعيد العالم العربي كله . ولهذا ربما اعتبر الكثير من الحضور رواه ومطالبه ضمن المثاليات الوحدوية المتكررة، احد المعقبين عليه، الاستاذ «مفلح عقل»، خريج امريكا ومدير في احد البنوك تعاطف مع بعض كلام المحاضر، حيث بين «ان الناتج الاجمالي لدولة مثل هولندا، وسكانها {c457ccac1452d3818271ab2011cbb9d08c0f4c36d5279f7e8d0cd5e61c92f6ca}6 من سكان العالم العربي، يمثل {c457ccac1452d3818271ab2011cbb9d08c0f4c36d5279f7e8d0cd5e61c92f6ca}70 من الناتج الاجمالي للعالم العربي ودخل الفرد فيها يزيد عن دخل 11 فرداً عربياً مجتمعين». ولكن الاستاذ عقل من جانب ثان يؤمن «بان هناك مؤامرة كبرى ليست على العالم العربي وحده، بل تشمل العديد من الدول والامم في العالم اجمع». ونفى ان يكون ضعف التنمية الاقتصادية معوقاً للتجارة بين العالم العربي بل وجود الحواجز، وغياب الارادة السياسية، وتراجع المد القومي.
اما المداخلة الثانية فكانت من د. طاهر كنعان، عضو مجلس الاعيان، الذي اكد ان الظروف افضل الآن بكثير لأي تقارب عربي، بعد ان اتحدث الرؤى الاقتصادية بين بلدانه، ولم يعد الانقسام السابق موجوداً بين اقتصاد موجه واقتصاد حر.
والذي اراه تعقيباً على المحاضرة وآراء المعقبين الفاضلين، ان د. صبري قد وضع يده على الكثير من العلل التنموية في العالم العربي وأرى نفسي متفقاً معه في تحذير العالم العربي بقوله «ان في وسعنا ان نشكل مستقبلنا والاشكّله غيرنا وفقاً لمصالحه». ويظن بعضنا ان التنمية هي بناء بعض المصانع وتأسيس بعض البنوك ثم الجلوس على الأرائك في المكاتب لحلبها! ومن هنا اهمية ماذكره د. صبرى من ان التنمية طريق وعرة، «تشبه سباق الحواجز التي لاتنتهي»!
ولكن الباحث لم يلتفت جيداً في محاضرته الى تطور «الدول الصغيرة»، القادرة رغم صغرها على تحقيق نمو هائل، ومنها تايوان وهونغ كونغ وسنغافوره وبعض الدول الاوروبية. كما انني لا اوافقه في تركيزه على استحالة التنمية ضمن الدول العربية القائمة حالياً، فها هي اسرائيل مثلاً قادرة على تحقيق نجاحات هائلة في الانتاج والخدمات والدخل القومي.. فما علة العالم العربي وشعوبه؟
خليل علي حيدر

المصدر: جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.