كنت، منذ نعومة أظفاري، وحتى بعد ان أصبحت صلبة وناعمة، أتمنى أن اكون صحافيا! فقد نشأت في أسرة تقرأ، وكانت مطبوعات «دار الهلال» و«آخر ساعة» و«المصور» تملأ البيت، ولكن الحياة أخذتني باتجاه آخر، مختلف تماما، حيث أصبحت، مرغما، مصرفيا ثم مقاولا وتاجرا وطالب مدرسة وجامعة في وقت واحد، ولفترة قاربت العقد، قبل أن أهاجر لأميركا وأتعب منها، وأعود لأهاجر لبريطانيا، واختار بعد سنوات بلغت الست، العودة طوعا وأسرتي الصغيرة للوطن، وتزامن ذلك، بعد اشهر قليلة، بدخول جحافل للكويت في الثاني من أغسطس 1990، ليندحر بعدها وتكون تلك بداية نهاية دكتاتور سافل وتافه لم تعرف المنطقة مثله منذ سنوات. مكثت في الكويت المحتلة فترة قبل أن أغادرها للسعودية واستقر في دبي ولتكون عودتي الثالثة للوطن منها، والتي كانت لفترة خيار هجرة ثالثا، ولكن ذلك ايضا لم ينفع. عودتي للوطن واستقراري دفعاني هذه المرة لأن افكر جديا في الكتابة، ومن وقتها لم اتوقف، ولكني لم اصبح يوما صحافيا بالمعنى المعروف، بل بقيت كاتب عمود، يتحول مرات كثيرة لكاتب صندوق، فشكل المقال كان يتحول من الطويل العمودي إلى المربع الصندوقي. وكنت سأقبل دعوة من القبس لو طلبت مني العمل بها بصورة يومية، ولكن هذا أيضا لم يحدث، ربما لاعتقادهم أن ثرائي النسبي وكبر سني سيدفعانني للرفض، ولم اعرض نفسي عليهم لا تلميحا ولا صراحة، ومرت الأيام وفجأة اكتشفت، عن طريق ملاحظة ليست بالذكية جدا، أن حياة الصحافي ليست بريقا وشهرة ومعرفة فقط، بل تعب وسهر ومشقة ليس لي طاقة بها. فعندما استلم الزميل العزيز وليد النصف رئاسة تحرير القبس، قمت بدعوته وعدد من كبار مساعديه للعشاء في بيتي، فاعتذروا جميعا، وهم يتهامسون، ربما من جهلي، فكيف يمكنهم جميعا ترك الصحيفة، وهنا قلبنا الدعوة للغداء، فقبلوها جميعا، وإن على مضض، وكانت تلك ربما أول وآخر دعوة جمعتهم، حيث اكتشفت أن الجميع تقريبا كان ينظر لساعته طوال الوقت وباله مشغول إما بالعودة للبيت لأخذ قسط من الراحة قبل الذهاب مساء للجريدة، أو الذهاب من عندي للجريدة لإنهاء ما كان يقوم به أو ما عليه القيام به من صف ومراجعة وترتيب واتصال وتدقيق خبر واختيار صورة! كما لاحظت اخيرا، وانا الذي أتواجد بمحض الصدفة، في عشرات حفلات العشاء، وخاصة غير الرسمية، بعد ان انقطعت عن قبول غالبية الرسمية منها، كالاستقبالات الدبلوماسية، لاحظت قلة، أو ربما ندرة، الوجوه الصحفية في مثل هذه الحفلات، وعرفت أن سبب ذلك يعود لطبيعة عمل الصحافي، والتي تتطلب من الكثيرين منهم البقاء في المطبخ الصحفي حتى ساعات متأخرة من اليوم بانتظار خبر أو تصريح، وما أكثر التصريحات والأخبار المهمة، وبالتالي نجد أن هؤلاء، عندما يخرجون من الجريدة اليومية، يصبحون في حالة من الإرهاق الجسدي والذهني التي لا يودون بعدها، سماع شيء أو قول غيره، بل وضع رؤوسهم على مخدة وان يقولوا وداعا لرويترز والفاكس والمكالمة الهاتفية والصورة التلفزيونية، ومرحبا بسلطان النوم.
***
• ملاحظة: ان خاطبكم المفترون والكذبة فقولوا.. سلاماً!
أحمد الصراف
habibi.enta1@gmail.com
المصدر جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق