عندما بدأنا رحلة العودة إلى الكويت المحررة بعد فبراير 1991، نحن من كنا خارج البلاد يوم العدوان، وجدناها سليمة قائمة، رغم مخاوفنا الكبيرة الجارفة، ورغم حرائق آبار النفط الواسعة، والدخان الخانق الجاثم على الكويت بأسرها. كانت شوارعها بخير، مدارسها غير مدمرة، مبانيها شامخة بما في ذلك الأبراج، مصافيها ومصارفها وكبرى مستشفياتها على ما يرام.
كان كل شيء في المكان، يدل على أن المحتل لم يجد الوقت لتدمير الكويت، وأن البلاد لم تتحول إلى ساحة قتال وقصف والأهم من المباني، وجدنا الشعب الكويتي الصامد المقاوم بمعنويات عالية ورغبة عارمة لتجاوز هذه المحنة. كل الكويتيين في الخارج كانوا في محنة نفسية رهيبة كمن كانوا في الداخل. والكثيرون كانوا يقولون إنهم يتمنون أن تحرر بلادهم مهما كانت درجة الدمار، ومهما كان ثمن إخراج قوى الاحتلال. وكانوا يقولون علنا إنهم راضون حتى بأن يسكنوا الخيام فوق أرضها.
نحن جميعاً مطالبون اليوم باسترجاع هذا المشهد وهذه الصورة، ونحن نقرأ خبر وفاة الجنرال نورمان شوارزكوف، القائد العسكري الفذ الذي خطط بعبقرية لتحرير الكويت وأنقذ عاصمتها وشعبها من دمار مادي ونفسي لا يعلم أحد مداه. فقد بادر إلى نقل المعركة بمهارة إلى جنوب العراق، ملتفاً حول الكويت، عابرا إلى ساحة القتال من الغرب، وهكذا قطع رأس الأفعى، وأجبر صدام وجنده على الفرار.
تحرير الكويت بخطة كهذه، كان عكس كل الحسابات التي توقعت إنزالاً بحرياً وقتلى بالآلاف ودماراً لكل الواجهة البحرية من الشعيبة إلى الشويخ.. ثم يأتي دور المباني في الداخل، حيث كان المقاتلون و«المجاهدون» العرب سيتحصنون في كل مكان لخوض «أم المعارك».. إلى جانب رجال صدام.
وربما كانت الكويت بأموالها، قادرة على إعادة بناء البلاد، ولكن ماذا عن السكان والقتلى وغير ذلك، في مجتمع صغير، يصعب عليه تحمل صدمة من هذا القبيل.. دون أن ينقلب كيانه!
نجت الكويت من الدمار رغم الاحتلال. تماماً كما نجت باريس في الحرب العالمية الثانية، حيث كان يمكن أن ينزل بها دمار فادح. مدن أخرى تعرضت للدمار والاحتلال معاً مثل «وارسو»، فمرت بمحنة لا توصف.
مخطط الجنرال الأمريكي شوارزكوف، قائد عموم القوى الدولية والعربية والخليجية التي تولت مع الجيش الكويتي تحرير البلاد، خير رد على من يتهم الولايات المتحدة بالانتهازية والنفعية والتآمر في غزو 1990 والتحرير. وأنها فعلت ما فعلت لـ«الهيمنة على النفط» كما قال الكثيرون. فقد ارتفع سعر النفط كثيراً منذ ذلك الحين، وتضاعفت ثروات الخليج والعراق وإيران وشمال أفريقيا.. والجميع! لو كان هدف الأمريكان جني المال ونهب الكويت لعكسوا خطة شوارزكوف، ووسعوا حجم الدمار في طرق ومؤسسات ومباني الكويت!! وكم كان مثل هذه الخرائب ستبهج الإعلام العربي والجماعات الاسلامية حليفة صدام وغيرهم، وهم يشاهدون بطولات «المقاومة الوطنية الشريفة»، و«بطولات صلاح الدين».. وهي تتكرر وتتجدد في وجه الغزاة الأمريكان.
وبعد أن يتم إجبار الغزاة على ترك الكويت، إثر هذه المقاومة الأسطورية، والتلميع الشامل «لمجد الإسلام» و«شرف العروبة» وغير ذلك، يأتي دور إعادة بناء ما تهدم في الكويت من طرق ومبان ومدارس وبيوت ومستشفيات. وتكون الفواتير بالملايين والمليارات للشركات الأمريكية والفرنسية والانجليزية وغيرها. ولكن الأمريكان فعلوا العكس تماما.. وخسروا الكثير!
سررنا جميعا، والموت حق، بالاستجابة الكويتية الرسمية الراقية مع هذا الحدث الجلل، كما كانت التغطية الإعلامية في رحيل هذا القائد الكبير تليق بدوره الذي لا ينسى وفضله العظيم على الكويت حكومة وشعباً، فهو الذي خطط لإنقاذ الكويت وحمايتها وبقائها، وهو الذي نسق ذلك المجهود العسكري الدولي العربي الخليجي، وبخاصة ما قدمته المملكة العربية السعودية من تسهيلات منذ أول أيام الاحتلال، وما عانت في سبيل استقبال القوات الدولية.. وسط معارضة محلية وخارجية عارمة.
إن مواقف وجهود الجنرال شوارزكوف، كما قال سمو الأمير في برقيته «ستظل ماثلة في ذاكرة الشعب الكويتي راجياً سموه له الرحمة».
نحن مدينون حقاً بالكثير لهذا البطل.. على كل صعيد.
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق