يعقوب الغنيم: رثاء لفقيدة كريمة

فقدت الكويت في الأيام القليلة الماضية سيدة فاضلة، ومربية كريمة من أوليات العاملات في التدريس من الكويتيات، وهي وبعض زميلاتها ومنهن إحدى أخواتها يعتبرن من الجيل الأول من الفتيات الكويتيات اللاتي اقتحمن ميدان التعليم في هذا الوطن، إذن فهي من بين بنات الكويت اللاتي نعتز بهن ونفخر بأنهن قمن بما يقتضيه واجب خدمة البلاد، وبناتها، فوقفن موقفاً حميداً وقت الحاجة الماسة إلى ذلك.
المربية الكريمة التي فقدناها هي الأخت سارة صالح راشد التوحيد، وهي من مواليد سنة 1929م، وكانت أسرتها تسكن في فريج الشاوي، ولذلك فقد بدأت بالدراسة لدى المطوعة الكريمة بدرية العتيقي، وهي صاحبة مدرسة في الفريج نفسه، وكنت قد كتبت عن هذه المطوعة وعن مدرستها في أكثر من مناسبة، ومن الجدير بالذكر أن لهذه المطوعة صِيتاً طيباً، وذكراً كريماً عند الناس جميعاً، ولذا فإن الأهالي لا يترددون في إرسال بناتهم إليها.
وانتقلت الأستاذة سارة التوحيد بعد فترة من الدراسة في المدرسة الأهلية إلى الدراسة في أول مدرسة حكومية للبنات تُنشأ بمبادرة من دائرة معارف الكويت، وكان اسم هذه المدرسة: المدرسة الوسطى، ومقرها في وسط العاصمة.
وعندما أنهت سارة رحمها الله دراستها في هذه المدرسة التحقت بالعمل في سلك التدريس، فصارت مُدرّسة في المدرسة التي تخرجت فيها، ثم انتقلت إلى العمل في المدرسة القبلية للبنات، فمدرسة الزهراء للبنات وهي في حي القبلة، ثم تمت ترقيتها إلى ناظرة مدرسة، فكان عملها الجديد في مدرسة حليمة السعدية التي كان موقعها في منتصف شارع أحمد الجابر في العاصمة، وهو شارع معروف حتى اليوم.
أحبت المُدرّسة سارة التوحيد مهنتها، وتفرغت لها، وأعطتها كل جهدها واهتمامها، وكانت سيدة تتصف بصفات المربية الكريمة التي تريد من بناتها أن يتطبَّعْن بكل الطباع الحسنة، ولقد كانت جادة بطبعها، حريصة على التمسك بالقيم والعادات الفاضلة، وبهذا تركت في نفوس بناتها أطيب الذكريات عنها، فلم تَنْسها واحدة منهن على الرغم من أن المدة التي مضت بعد أن توقفت عن العمل كانت مدة طويلة، وأن انتهاء بناتها من دراستهن كان قبل ذلك بمدة أطول، ودليل فضلها وعرفان الطالبات اللاتي درسن على يديها بهذا الفضل ما حدث في فترة العزاء حين وجدت أسرة الفقيدة الإقبال الكبير على تعزيتها وأكثر المعزيات من ذلك الجيل الذي درَّسته الفقيدة في أربع مدارس هي التي عملت بها خلال فترة استمرارها بالعمل في سلك التدريس.
إن الآباء والأمهات وكذلك البنات لا ينسى واحد منهم أو منهن هذه التي بذلت كل ما تستطيع في سبيل نشر التعليم في الكويت في وقت كانت هذه المهنة من أشد المهن، ولم تكن هنا في الكويت من المباني المدرسية والوسائل التعليمية ما يساعد على حسن أداء المدرس أو المدرِّسة بما يكفي لتقديم عمل كبير يتماشى مع طموح البلاد في ذلك الوقت، ولئن تقدم التعليم عندنا بعد ذلك تقدماً ملحوظاً، وتيسرت كل الأمور التي كان من الصعب توافرها في الماضي؛ فإن الغرس الذي غرسه المدرسون والمدرسات من هؤلاء الذين بدأوا بالعمل في المراحل الأولى لبدء التعليم النظامي في الكويت؛ هو الذي أدى إلى كل ما نفخر به في هذا المجال الإنساني العظيم.
لقد كانت سارة التوحيد مثالاً للنُّبل، وكانت وفيّة لعملها مخلصة لوطنها، مفيدة لبنات هذا الوطن، وقد قامت بتقديم كل ما تقدر على تقديمه من الجهود في هذا السبيل.
رحمها الله رحمة واسعة.

د. يعقوب يوسف الغنيم
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.