مدخل: هناك عبارة تقول: «أعذب الشِعر أكذبه» وعبارة أخرى تقول: «أصدق الشِعر أكذبه». وهناك عبارة تقول: «أجمل الشِعر أكذبه». وكل هذه العبارات خاطئة من ناحية المعنى الحسي واللغوي، والعبارة الصحيحة هي: « أحسن الشِعر أصدقه».
نحو الموضوع:
أعذب الشِعر هو ذاك الذي يُكتب بمداد المعاناة الحقيقية الصادقة، الذي يكون دافعه المشاعر التي تلبست شاعرها من رأسه وحتى أخمص قدميه سواء كانت تلك المشاعر مشاعر فرح أو حزن، وقد قيل قديماً ما خرج من القلب سيصل للقلب سريعاً دون تأخر أو عناء. قد يكون (أكذب الشِعر أعذبه) جميلاً ويسرق الدهشة، في فكرته وبنائه وكلماته وسبكه، لكن لن يكون أحسن أو أقرب أو أسهل في الدخول لقلب المتلقي. فكم من قصيدة صادقة في مشاعرها خلّدت قائلها في قلوب الناس وفي صفحات التاريخ، على عكس ذلك الذي كتب قصيدة من نسج الخيال والشعور المستصنع. وإني أتذكر ابن زريق البغدادي الذي لم يقل إلا قصيدة واحدة مات على اثرها فوراً بسبب ما حل به من ضياع وشتات وشقاء، حيث تعد قصيدته من أروع القصائد التي علقت في ذهن التاريخ والشِعر وأهله.
وأود كذلك أن أتطرق لشعراء المديح الذين مِنا من ينتقدهم سلباً، الشاعر الذي يصل لغاياته ومصالحه ويقضي شؤونه عبر قصائده التي يقدمها لمن هو بيديه انقضاء حاجته من بعد الله تعالى، وأخص بالذكر أولئك الشعراء الذين يستجدون العطاء عبر قصائدهم. شخصياً لا أجد إشكالاً في أن تستخدم تلك الشريحة من الشعراء موهبتها في تخفيف معاناتها وحل أزماتها وقضاء حوائجها، فهذا الأمر ليس ممنوعا شرعاً ولا حتى ممنوع عُرفاً، وعند العرب قاطبة لا تعتبر هذه الخصلة عند بعض الشعراء من خوارم المروءة التي تنقص من قدرهم وتحط من هيبتهم، وإن استعرضنا التاريخ سنجد أن هناك أسماء كبيرة من شُعراء العرب الأفذاذ كانوا يستجدون الهِبات والعطايا عبر ما يقدمون من قصائد، ولقد ذكر أهل التاريخ أن فحول الشِعر أمثال المتنبي وجرير والفرزدق والبحتري والأخطل والأعشى، وغيرهم من الشعراء متقدمون ومتأخرون زمناً كانوا يطئون بلاط الأمراء والولاة ويقفون على أبوابهم يستجدونهم العطاء ويطلبون منهم قضاء حاجاتهم المختلفة، وكانت العرب قاطبة قبل الإسلام وبعده تُقدر الشاعر وتوّقره وتعطيه وتمنحه قبل أن يبادر هو بطلب قضاء حاجته، وإن حصل وطلب منهم قضاء حاجته عبر شِعره من مال أو نصرة أو شفاعة، فإنهم في الغالب يلبون له ما طلب، كما أنه يوجد هناك كُرماء وأسخياء من الناس يحبون أن يُقدموا الأعطيات والهبات للشعراء سواء طلب الشعراء ذلك أم لم يطلبوه، ومن باب أولى أن يُلتفت للشاعر الذي يطلب منهم قضاء حاجاته.
ولا ننسى أن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد خلع بردته وألبسها الشاعر كعب بن زهير من دون أن يطلبها منه، استحساناً لقوله وتقديراً لشاعريته. وشِعر المدح والثناء هو من أهم وأصعب أغراض الشِعر بشكل عام من ناحية الموضوع، لأن شِعر المدح يتطلب من الشاعر أن يكون حذقاً أديباً أريباً فطناً في انتقاء وترصيع أجمل عبارات المديح والإطراء والثناء في حق الممدوح، وزد عليه أن شِعر المدح يريد من الشاعر أن يتفرّد بروحه وحسه وفكره في طرق أبياته للشخص الذي ينوي أن يمدحه، حيث أن الملوك والأمراء والوزراء والأثرياء والمستحقين لا بد أن يعاملهم الشعراء بالكثير من الأهمية والحكمة والجمال، وأن يبتعد في مدحهم عن التقليد والسطحية والحشو والغلو غير المقبول، وفي شِعر المدح كل ما كان الشاعر جميلاً وجديداً في ابتكار أبياته كل ما انتشر صيته في الأرض.
roo7.net@gmail.com
المصدر جريدة الراي
قم بكتابة اول تعليق