اعتاد الكويتيون السفر في موسم الصيف هربا من حر شمس خليجية قاسية, فكانوا لما حباهم الله من وفرة في المال الأقدر على التنقل بين دول أوروبا, فتارة في سويسرا وأخرى في فرنسا وإيطاليا والنمسا وألمانيا وبالطبع على رأسها لندن, وهو الأمر المنطقي والمفهوم لأن جميع ما ذكرت من دول تتمتع بشمس أحن من شمس الكويت, وهواء أنقى من هواء الكويت وطبيعة مختلفة, وثقافة مختلفة وأسواق ببضائع مختلفة ووتيرة حياة مختلفة – وهو الأهم في رأيي- تقتلع الفرد من روتين حياته وتزرعه في تجربة مختلفة يعيش جزءا صغيرا من حياة ناس آخرين.
ولكن أين يقف بنا هذا التحليل أمام أفواج كويتية هائلة تهم للسفر إلى مدينة مثل دبي والتي لا تختلف عن الكويت بقسوة شمسها, بل تشتد عنها وتزيد, ولا تتميز بهوائها فما يمر على الكويت من عواصف وأمطار وغبار لا بد ولا محالة هو مار على دولة الإمارات كغيرها وباقي دول الخليج, ولا تختلف أيضا بطبيعتها فالبحر واحد والنفوق واحد والتلوث شبه واحد والصحراء واحدة والجمال واحدة والخيول واحدة والنوق واحدة وكله تقريبا واحد, ولا تختلف بثقافتها الاجتماعية والفنية والمعيشية واللغوية عنا في شيء, فهذا زيد أخو بلال ولا يضيف لنا وجودنا الطويل في بلد كدبي أي إضافة ثقافية سوى الإحساس بالألفة لشيء نعهده ونرضاه كالدين والسلوك العام وقيد على حرية الفعل, لأن مجتمع دبي كأي مجتمع خليجي لا يمتهن أكثر من الحكم على الناس وظيفة! ولا تختلف دبي أيضا في أسواقها كما لا تختلف أي سوق عن سوق في شيء في السنوات الأخيرة, فالعالم كله غدا سوقا كبيرة واسعة ومفتوحة للجميع, إذا لماذا يستلذ الكويتيون بدبي, ويستطعمون وقتهم المبذول فيها ويستحلون مالهم المصروف فيها ويتنشقون متعة أيام يقضونها فيها?
أرى أن السبب يكمن في الجمال كمفهوم مجرد عن القيد, وكمثال يسهل عليَّ وضع ما أعنيه في كلمات أقول لكم: ليتخيل كل منا الكويت ودبي كأختين تتشابهان في المظهر الجميل والسلوك اللائق والأدب والطاعة, فتزوجت الأولى – وهي الكويت- وأنجبت أبناء سهرت إليهم قبل أن تسهر عليهم, فقدمت التسهيلات وفتحت خزينة أموالها لمن أراد أن يأخذ من أبنائها وليس لمن استحق أن يأخذ, فدللت وأفسدت فنشأ أبناؤها على الأنانية وحب الذات والأخذ من دون استحقاق, وكبر في أنفسهم عنصر الكسل حتى أوشك أن يكون في تكوينهم الجيني, لكن الأم في خضم صراعها لأبنائها ومع أبنائها نسيت نفسها فكبرت وسمنت وتركت نفسها للزمن ولتجار الحلال والحرام من أبنائها أن يلبسها عباءة الخوف, فتلحفت بسواد أفعالهم وهرمت فلم تعد تقوى على التلوي مع إيقاع موسيقى فرحة, ولا على الغناء على ألحان عذبة ولا على الانتشاء بدفء حنانهم ورفقهم بها, فغدت تسأل نفسها إن كانوا لايزالون يحبونها في الوقت الذي يثقل على أنفسهم قضاء الإجازات حتى القصيرة منها معها.
أما الأخت الثانية – وهي دبي- فتزوجت هي الأخرى وأنجبت وسهرت وتعبت وكبر أبناؤها ليقول أكبرهم لإخوانه “الآن حان لأمي أن تتزين وتتحلى وتتعطر بكل ما حرمت منه في معترك تربيتنا” فلعبت دبي الرياضة وعمدت إلى عمليات تطويل قامات عمائرها وشد حوض بحرها ومد ظهر خليجها فغرزت أبر البوتوكس “في كل زاوية وحقنت حقن الفيتامينات في كل ناحية وتبخرت وتعطرت” وتزينت وتشببت في كل يوم لها. ولم تكتف بعيد وطني لتعلق على قدها إشارة فرح لكنها كانت تقوم في كل صباح لتعلن للعالم أن لا قسوة الصيف ولا فقر الموارد الطبيعية ولا الثقافة العربية بكل موروثاتها تستطيع أن تقف في وجه امرأة “أرادت” لنفسها الجمال.
ونحن كطلاب العروس نعجز عن الوقوف حائرين ما بين أختين واحدة منهما تهرم بفعل أبنائها والأخرى تتزين وتزهو بإرادة أبنائها, فكان من السهل علينا أن نختار رفقة الجميلة منهما حتى ولو كان لبضعة أيام.
أصور الكويت على أنها امرأة منذ كنت طفلة في أولى سنوات عمري, لا أستطيع طبيعيا أن أمنطق حبها ولا أن أسببه, فهو كحليب أمي يسري في العروق ولكنني على الأقل أستطيع أن أعلل وأفسر أسباب رفض كثير من أن يقضوا إجازاتهم فيها, الصيفية منها والشتوية, فالنفس البشرية مهما بلغ بها الزهد واشتد بها الالتزام تتوق إلى كل ما هو جميل للنظر والسمع والروح والجسد, والكويت “كمكان” يعجز عن إشباع هذا لأن الفن فيها يذبح كل يوم بحجة واحدة يعزفها المجتمع على طبول تدق فينا نحن الكويتيين الخوف والرهبة من العقاب الإلهي وسوء المنقلب, وإذا غاب الجمال عن المكان غابت عنه الشمس, وإذا غابت الشمس عجزت جميع عواميد الكهرباء عن إنارة شمعة في الروح البشرية.
h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق