عبداللطيف الدعيج: صخة

توفي قبل أكثر من سنة بقليل المرحوم علي الراشد، أحد أبناء عمي. «بوأحمد» كان بالنسبة لنا موسوعة متنقلة، يتذكر كل شيء، ويفهم أيضا في كل شيء. قرأ مؤلفات العرب القديمة، وحفظ كثيرا من الشعر كحال أغلب المهتمين بالعلم والأدب في زمنه. لكن ما يتميز به «بوأحمد» هو الذاكرة التي تتسع لكل شيء، وتعنى بكل صغيرة أو كبيرة تمر عليه. «بوأحمد» كان يقرأ ويسمع ويشاهد ويختلط مع الجميع، صغارا وكبارا، علماء وسذجا.. ويسجل كل ما يدور حوله، وهذا سبب موسوعيته. وليس هذا وحسب، بل كان لديه ميل -من دون تعال أو استعراض- للمساعدة وتبادل ما يعلم.

تذكرته اليوم وأنا أحاول أن أجد تسمية الحالة أو الوضع الذي نحن فيه. ففي الكويت القديمة إن جاز لنا، أو إن جاز لي بالذات تسمية كويت النصف الأول من الخمسينات بذلك، وفي أيام القيظ الشديدة، التي تبلغ فيها الحرارة والرطوبة أقصاهما. وتماما بعد الساعة الثانية ظهرا، أي قبل صلاة العصر بساعة أو أكثر قليلا يسود الكويت كلها «سكون»، بحيث لا تسمع حتى تنفس من حولك. فالكل بسبب الحرص على توفير الطاقة التي يسبب إنتاجها زيادة حرارة الجسم، يحاول الا يتحرك أو يستثير هذه الطاقة. في أي مكان كنت، يكون السكون هو سيد الموقف، في بيت الدعيج، الذي هو ببطن السوق، لم نكن نسمع حركة أو حسا. الوضع في الواقع ليس غريبا أو مخيفا، لأنه في ساعات الليل الأخيرة أو في منتصفه أيضا يكون الحال كذلك. لكن الفرق أنه في الليل يكون الناس كلهم نياما، فلا يحسّون بشيء ولا يتعجبون أو يثير انتباههم ما تعودوا عليه، وأصبح شيئا عاديا. سكون الليل عادي ومتوقع، في الواقع قد يخطئ أحد الديكة التوقيت، وقد تسمع صوت سمرة من بعيد، أو على الأقل شخير من بقربك، لكن في عز النهار في القيظ، عندما يلف البلد والكون حولك السكون يكون الوضع مختلفا تماما، فأنت بالفعل لا تسمع شيئا على الإطلاق.. وكأن الدنيا قد توقفت. لهذا كانت تُعرف هذه الحالة في الكويت بـ«الصخة».. سبب تذكّري لـ «بوأحمد» الله يرحمه، هو أنني لست متأكدا تماما من التسمية، لهذا تمنيت أن يكون في إمكاني الرجوع إليه لتأكيد أو تصحيح ذلك.

عموما والقصد، ان الحالة التي يمر بها البلد الآن هي «صخة»، فلا حسّ ولا حركة، والكل تعب، والكل يدّخر جهده لما بعد صلاة العصر.. فمتى الأذان؟

***

قالت حط «نقل»

الصخة أيضا قد تكون السكون أو الهدوء الذي يسود الديوانية بعد نقرة واختلاف حضورها، حيث يكون الكل قد تعب أو ملّ الصراخ والاعتراض. وأشهر وأطرف صخة أتذكرها كانت بعد تزوير انتخابات 1967. كنا نلتقي في ديوان المرحوم فجحان هلال المطيري بوصفنا لجنة كيفان الانتخابية. وفي مساء التزوير وما بعده، امتلأت الديوانية بالحانقين والغاضبين. وكان النقاش أو الصراخ على أشدّه، فالبعض كان يحاول أن ينقل ما يؤكد التزوير، وكأن هناك من شكك به، والآخر يُثَني عليه، والبعض الآخر كان يتساءل: ما العمل؟ بينما بعض المتحمسين كان يدعو الى المواجهة والى الاقتصاص. الزبدة أن الديوانية كانت صراخا ونقرة، وأحد في الواقع لم يكن ينصت لأحد. والذي كان يزيد الطين بلة أنه ما ان يهدأ رواد الديوانية، ليلتقطوا أنفاسهم، ليس إلا، حتى يدخل علينا الأصدقاء من الدواوين الأخرى ويبدأون من جديد في تبادل المعلومات أو الآراء، أو بالأحرى الصراخ مع الحاضرين. أعتقد أن الوضع استمر على هذه الحال ليلتين أو ثلاثا، وكان الوضع فعلا لا يطاق. في النهاية كان هناك هدوء أو «صخة»، قياسا الى ما سبقها من صراخ ونقرة، في الواقع كانت كما وصفها وصفا دقيقا أحد الرواد «الماية ثبر». وهذه تعني أن البحر في حالة جزر تام في يوم قائظ أيضا لا تسمع فيه غير أصوات أو «تكتكات» قواقع البحر، وصوت الهواء وهو يتنقل -«يفرقع»- بين جحور ديدان القلم. سبب الصخة كان أن هناك «بوادي ممتلئة بالنقل» موزعة في طول الديوانية وعرضها، والنقل هو أحد المكسرات الإيرانية مثل «البنك والعنجكك». والنقل الذي كان في الديوانية ذلك اليوم كان لذيذا وترفا سهل الكسر، بحيث انك إن بدأت به فمن الصعب أن تتوقف. لهذا كان صعبا على رواد الديوانية أن يتحدثوا وحلوقهم مملوءة نقلا باستمرار. واستظرف الجميع الأمر لدرجة أنه ما ان يدخل فرد جديد إلا وأجبروه مثلهم على حشو فمه بالنقل. لهذا ساد الهدوء تماما الديوانية، ولم يكن الرواد حتى معنيين بمتابعة الأمور العادية، فالكل على ما أعتقد كان فعلا بحاجة إلى «بريك».

أخيرا سأل أحدهم المرحوم فجحان عمن هداه إلى هذه الفكرة الجهنمية لصرف رواد الديوانية عن النقاش، فرد، الله يرحمه ببرود «قلت لزوجتي الربع اذوني بالقرقة عن التزوير.. قالت حط لهم نقل».

عبداللطيف الدعيج
المصدر جريدة القبس

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.