يوسف العنيزي: على حافة العالم

رنّ الهاتف في مكتبي في سفارة دولة الكويت بمدينة كراكاس عاصمة فنزويلا، وكان المتصل رفيق الدرب دائما الصديق العزيز الدكتور ريمون قبشة، وجرى هذا الحوار القصير:
– نظراً لمعرفتي بحبك للمغامرات والسفر وأدب الرحلات فإني قد تلقيت دعوة لشخصين لزيارة قرية “كافاك kavac” التي تقطنها بعض قبائل الهنود الحمر الذين لم تتغير حياتهم كثيراً عمّا كانت عليه، وتقع في غابات الأمازون على الحدود الفنزويلية البرازيلية.
– ومتى تريدني أن أكون في المطار؟
– هل يعني ذلك الموافقة؟
– وهل تتوقع غير ذلك؟
في اليوم التالي غادرنا مطار كراكاس في رحلة استغرقت حوالي الساعتين إلى منطقة “كانايما أو الحديقة الطبيعية” حيث تقع “شلالات الملاك”، وهي أعلى شلال في العالم، كما أنها تعتبر من أجمل المناطق السياحية، يتميز المطار بالبساطة حيث يتكون من أكشاك وبعض الكراسي والطاولات الخشبية، أما الفندق الوحيد فيتكون من غرف تطل على الشلال والبحيرة، قضينا اليوم الأول في منطقة كانايما، وفي اليوم الثاني استقللنا طائرة صغيرة من نوع D C3 التي تم إنتاجها حوالي عام 1943، كان الفريق المشارك في الرحلة يتكون من 16 شخصاً من جنسيات مختلفة.
في بداية الرحلة قام الطيار بالتحليق فوق الشلالات الرائعة التي تميزت بمناظر غاية في الروعة والجمال، بعد ما يقارب الساعة وصلنا إلى منطقة “كافاك” وهبطت الطائرة في وسط الغابة وعلى مدرج ترابي ممهد، ثم توقفت على مقربة من بيوت متناثرة لبعض العائلات من الهنود الحمر.
بعد استراحة قصيرة قاموا بإشعال النار بخشب الأشجار حتى غدت جمراً ملتهباً، فألقيت عليها قطع الدجاج المتبل بالبهارات الهندية الطبيعية، وما هي إلا بعض الوقت حتى تم تجميعها ونثرت على طاولة خشبية تجمع حولها الفريق المشارك الذي قام بافتراس هذا الكم الهائل من قطع الدجاج اللذيذ باستخدام الأيدي، فلا توجد سكاكين أو شوك أو صحون.
وبعد الانتهاء من عملية الافتراس، قدمت أكواب الشاي الهندي وجلس الجميع على الأرض مقابل حصيرة كبيرة نثرت عليها قطع من الدجاج النيّ وبدأ حفل استقبال آخر لأسراب من النسر الأميركي تجمعت حول تلك القطع. قمنا بعد ذلك بتغيير الملابس والاكتفاء بملابس السباحة، وبدأت “المسيرة” نحو أعماق الغابة حتى الوصول إلى النهر الذي تم عبوره بالتمسك بالحبال لتلافي الانجراف أو السقوط حتى وصلنا إلى البحيرة الرائعة المكونة من مصب الشلال الذي يخفي خلفه “كهف كافاك”… إنها لوحة طبيعية لا يمكن وصفها رسمتها يد خالق أبدع في خلقه في تناسق رائع ما بين أشجار عملاقة وأزهار بكل الألوان ومياه تتساقط حتى إذا ما لامست سطح البحيرة كونت أقواسا من ألوان الطيف.
جلست على حافة البحيرة ورحت في تفكير عميق، وتركت للخيال عنانه، وتوغلت في نفق الزمن ليس للمستقبل بل إلى الماضي “القريب” وبالتحديد إلى ذلك البيت الصغير المتواضع في “فريج المرقاب”، فالعامل المشترك بين حافة العالم في الأمازون، وذلك “الفريج” بساطة الحياة والبعد عن كل مظاهر الحضارة الحديثة، فهنا
كما كنّا هناك لا يوجد راديو أو تلفزيون أو إنترنت أو هواتف لا شيء مطلقاً، كل ما نملكه في ذلك الوقت كانت “الدوامة، والدرباحة، والتيل”… وألعاب اخترعناها، فكانت متعة وتسلية لنا مارسناها مع إخوة لنا يطيب الخاطر بذكراهم منهم عبدالوهاب المزيني، وعبداللطيف الرقم، ويوسف المضيان، وعبدالمحسن الخلفان، وغيرهم من إخوة وأصدقاء تسر النفس ذكراهم، كنا لا نفترق إلا إذا جن الليل، وذلك خوفاً من “الطنطل واليني”! كم كان رائعاً ذلك البيت الصغير المتواضع بما يحتويه من غرف نوم، وحوش ترابي والسطح الذي كنا نستخدمه للنوم في فصل الصيف حيث الهواء العليل الذي يحدثه “الباقدير” أو المكيف الطبيعي، على يمين المدخل، أو “الدهريز”، توجد غرفة الاستقبال التي تم تقسيمها إلى جزء للنوم والآخر للضيافة التي يتوسطها “أوياق” أو الموقد الذي صُفت عليه “قواري” الشاي والحليب المهيَّل و”الدارسين” ودلات القهوة المرّة والحلوة، و”طاسات الدرابيل”، و”الرهش” والحلوى وقرص عقيلي.
وبعد صلاة العشاء نجتمع مع الوالدة رحمها الله حول الأيواق في انتظار جدي حسين علي الخضري رحمه الله، حيث جرت العادة أن يمر علينا بعد أدائه صلاة العشاء في مسجد الفضالة، فيجلس معنا للتسامر.
حلَّق الخيال إلى ذلك الحي بسكانه ومساكنه، فهنا بيوت المزيني ثم بيت القبندي، والعيسى، والرقم، والعتيقي، والمسباح، والخلفان، والبدر، والفهد حتى مسجد الفضالة ملتقى المحبة، والإيمان.
كانت القلوب عامرة بحب الخير والفزعة، لم نكن نسمع من أهلنا القول الفاحش أو السباب والشتم والتخوين، كان الناس للناس والكل بالله، الأمانة والصدق والوفاء هي القيم السائدة.
نعم ندرك أن المجتمع والتركيبة السكانية تغيرت ولكن أليس من المنطق أن نتغير إلى الأحسن والأفضل في ظل نهضة تعليمية وزيادة هائلة في أعداد خريجي الجامعات والدراسات العليا وخريجي جامعات عالمية من كل الدنيا؟ إذن ما بال نقاشنا وحواراتنا أصابها التردي والإسفاف بالطرح، وفُقد الاحترام والتقدير حتى وصلنا إلى مرحلة يوصف بها من يمتهن السباب والشتم والحديث في أعراض الناس وذممهم بـ”الأبطال” بدل أن تصبغ وجوههم بالسواد، كما كان في ذاك الزمان. أي منطق هذا بأن نقوم بالمسيرات والاعتصامات دعما للشتّام والسباب والفاجر بالخصومة؟ متى نرتقي بالفهم لندرك أن إبداء الرأي يختلف تماماً عن السباب والشتم اللذين يحطان من قدر من يقوم بهما قبل غيره.
إنها والله ليست بطولة بل هي صفة مذمومة شرعاً وأخلاقاً، أتمنى أن يكون هناك رادع لكل من امتهن ذلك من أجل شهرة أو ركوب موجة.
حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.
المصدر جريدة الجريدة

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.