كتاب الصديق خالد عبدالرحمن عبدالمغني «بدايات الخدمة البريدية في الكويت» يتحدث عن ميلاد نمط من التواصل يشهد جيلنا اليوم نهايته وربما غروبه الابدي.. وهو تبادل الرسائل الورقية بالبريد!
وكم هي صدفة مؤثرة ان تحتفظ الرسائل والطوابع والمظاريف واوراق كتابة الرسائل بمكانتها ووجودها عبر كل العقود الماضية لتذبل وتندثر هذه الايام.. امام اعيننا.
كتاب عبدالمغني، الصادر عن «مركز الدراسات الكويتية» في 2012، يدرس بدايات البريد، وبخاصة البريد التجاري والرسمي وما يماثله ما بين 1923-1896.
ويشير الباحث الى جهود من سبقه، وبخاصة اعمال «نيل دونالدسوف» و«هوغل كلارك»، وهما اللذان ارخا الخدمة البريدية وتطورها في المنطقة الخليجية وشرق الجزيرة العربية. ويعتذر الباحث للقارئ عن ان ما يقدمه للقارئ في كتابه هذا هي غالبا رسائل ومغلفات «واردة» للكويت وليست صادرة عنها. وهي توثق الفترة الزمنية التي تلت حكم الشيخ مبارك الصباح، ومن ثمة «فإن الفترة التي تعود الى ما قبل 1896، تحتاج الى دراسة جديدة، حيث لم اتناولها بالشكل الوافي، وذلك لقلة المصادر والوثائق والمغلفات البريدية».
«بدايات» عبدالمغني، رحلة تاريخية حالمة الى ماضي الكويت السياسي الثقافي التجاري عبر الرسائل والمغلفات!
كانت للرسالة في ثقافتنا العاطفية وحتى السياسية والثقافية، مكانة مرموقة متميزة، وان كان محور بحث الكتاب الرسائل التجارية والبريد العام. وقد تضمنت ثقافة الرسالة لهفة الانتظار ومعرفة الاخبار، وظلت الرسائل البريدية محتفظة بهذه المكانة العاطفية منذ زمن طويل حتى قضت عليها رسائل الفاكس والانترنت والنقال و«المسجات».
ولهذا كذلك تجد كلمة «خط» – بمعنى رسالة – وكلمة «مكتوب» و«جواب» في نثر وشعر واغاني العديد من لغات ولهجات المنطقة العربية والتركية والفارسية.. وقد يدرس باحث هذا كله في المستقبل.
من طرائف تاريخ البريد في الكويت في بعض المراحل، كما تشير بعض المراجع التي يوردها خالد عبدالمغني، ان رؤية العلم الابيض كانت من علامات وصول البريد للبلاد. كان البريد يصل عام 1912 مرة في الاسبوع بحرا، وكان المهتمون، عندما يشاهدون العلم الابيض يتوسطه صليب أحمر مرفوعا على مقر شركة الهند البريطانية للملاحة في المنطقة الوسطى من مدينة الكويت، يعرفون بخبر «وصول السفن الحاملة للبريد الى الميناء، فيبعثون بساعٍ مع حقيبة بعد مضي بعض من الوقت الى مكتب البريد الكائن بمقر المعتمد البريطاني لجلب الرسائل والصحف والمجلات» (ص76).
اعتمد كتاب عبدالمغني على الارشيف الهندي البريطاني المتعلق بالكويت والخليج، والذي وفرته في مركز البحوث والدراسات الكويتية جهود القائمين عليه. واعتمد بشكل رئيسي على مكاتبات «عائلة الخالد» المعروفة المحفوظة بالمركز كذلك. فما ان وضع يده في ارشيف هذه العائلة التجارية العريقة، حتى وجد نفسه، كما يقول، بصدد «اعادة البحث في كتابة بدايات تاريخ البريد في الكويت»، لثراء مادة المراسلات بالمعلومات.
كتاب عبدالمغني تذكير للكويتيين، وبخاصة الاجيال الجديدة، بماضيهم التجاري الحافل، ذلك النشاط الاقتصادي المثمر الذي اغرقه العمل الحكومي والانهاك بالوظائف الادارية. وفي الكتاب صور كثيرة عن أسماء التجار الكويتيين المقيمين في الهند آنذاك من واقع اوراق مراسلاتهم الخاصة وغير ذلك. من الاسماء علي الحمود الشايع، حمد العلي القاضي، محمد بن سالم السديراوي، عبداللطيف العبدالرزاق، عبدالرزاق العدواني، جاسم بن محمد البودي، عبدالله محمد الفوزان، وآخرين. كيف كانت حياة ونشاط تجار الكويت في الهند ودول آسيا؟ ذاك موضوع دراسة اخرى!
لم يحمل البريد الرسائل التجارية والرسمية فحسب، بل وكذلك المجلات والصحف. وكما هو معروف، يقول عبدالمغني، «كان الكويتيون على علاقة وثيقة بالصحف والمجلات الصادرة بمصر وبغداد واسطنبول ولندن، ويشتركون فيها بواسطة المراسلة او عن طريق ممثلين يحصلون رسوم الاشتراك بالنيابة عن ادارتها في البصرة او بومباي وعدن وغيرها، وكانت بعض المجلات والصحف تبعث الى البصرة عن طريق وكلاء التجار الكويتيين او ابنائهم المقيمين لرعاية املاكهم. وكانت بعض الصحف غير المصرح بتداولها في الدولة العثمانية، كجريدة «الخلافة»، التي تصدر في لندن باعتبارها مخالفة للسياسة العثمانية، تبعث الى الكويت عن طريق مكتب البريد الهندي في البصرة». وكان الشيخ مبارك الصباح ممن يطالعها بانتظام او يحرص على متابعة ما تنشر من اخبار عن الدولة العثمانية ومشاكلها.
حاول بعض التجار في اوائل سنة 1912 تجنب الضرائب والرسوم التي كان الشيخ مبارك الصباح يفرضها على بعض السلع.. وذلك باستغلال الخدمة البريدية! فكانت الطرود ترسل الى التجار في الكويت عن طريق البريد وفيها بعض السلع الثمينة تجنبا للرسوم، لدرجة ان عدد الرسائل والطرود البريدية بلغ ما بين 180-150 في اسبوع، «الامر الذي استدعى تدخل الشيخ مبارك بعد علمه بالموضوع في شهر مايو، لوضع حد لهذا التهرب عن دفع الرسوم الجمركية على السلع مثل خيوط الذهب والمسك». وهكذا اخضعت الطرود القادمة للفحص اولا بأول في مركز الجمارك لتقييمها، بل كان رئيس الجمارك لدى الشيخ يتجه بنفسه الى الباخرة البريطانية قبل السماح لها بافراغ حمولتها.
نال الكتاب جهدا كبيرا في مجال البحث والطباعة. وبهذا فهو اضافة حقيقية للمكتبة الكويتية، التي اتحفها قبل ذلك باحثان في مجال تاريخ البريد الكويتي، وهما عادل العبدالمغني ومحمد عبدالهادي جمال، بمؤلفاتهما، وان بدا غريبا بعض الشيء عدم وجود اي اشارة لاعمالهما في قائمة مراجع كتاب «بدايات الخدمة البريدية في الكويت». كتاب جدير بالاقتناء.
خليل علي حيدر
المصدر جريدة الوطن
قم بكتابة اول تعليق