كنت كتبت مقالا سابقا عن مصيبة التعليم العالي في هذا البلد المنكوب بأبنائه (ولا تنس بناته أيضا)، وكنت وعدت بالعودة الى مشكلة التعليم الابتدائي والثانوي، وأنا أفعل ذلك اليوم؛ غير أن هناك أفكارا تراودني أرى التخلص منها مقدما، تمهيدا لما أريد قوله عن موضوع اليوم. أول هذه الأفكار التي تطرأ لي أن علي أن اشكر الكويت، شعبها وصحافتها، ومؤسسات الدولة فيها على السواء، على كرمها في قبول تعليقاتي (وكثير منها لاذع مرّ) على ما أسمع وأرى، برحابة صدر وترحيب نادرين يملآن صدري بالغبطة والشكر والسرور: فالنقد البريء دليل المحبة، وقبوله دليل النضج والتسامح وسعة الصدر، وهو من خصائص العقلية الديموقراطية النادرة بين العرب.
والفكرة الأخرى التي أريد تأكيدها هنا، هي أني لا أحاول اعطاء «وصفات» جاهزة للإصلاح، وتوقعه مني خطأ في فهم غرضي من كتاباتي: فأنا أرمي الى رسم صورة مبسطة، بخطوط عريضة قليلة ومختصرة لبيان اتجاه المسيرة، لا للدخول في التفاصيل التي تترك للاختصاصيين والسياسيين.
وسأناقش فيما يلي محاولة أقدمت عليها القبس، وأخفقت، للسبب الذي أحاول تفاديه وهو الدخول في تفاصيل دقيقة مهنية ليس من واجبات الصحافي الدخول فيها. كما أني انتهز هذه الفرصة لشكر هيئة التحرير التي لم تضق ذرعا بما أقحم نفسي فيه، والتي تشجعني على التمادي فيما أنا ماض فيه، تشجيعا يخيل لي أن في ذلك كله مؤامرة تحاك للإيقاع بي! وهذا غاية ما يرجو المفكر من جيله أن يجود عليه به! فإلى القبس وهيئة تحريرها أصدق شكري وامتناني.
أما الفكرة الأخيرة التي يطرأ لي ذكرها فهي أني كثيرا ما تلقيت ردودا وتعليقات على ما أكتب، غير أنها كلها من غير استثناء، كانت تعليقات شفهية، كأن المجتمع ما زال في بيئته الأمية! ومشكلتي بالردود والاعتراضات الشفهية، على ما قد تنطوي عليه من وجاهة في أحيان كثيرة، أنها فردية ومتكررة، فهي لذلك متعبة، ولا جدوى يرجى منها لأن عرض الافكار فيها ينقصه الترتيب والتسلسل المنطقي، وأنا أود أن أعلن هنا رفضي مناقشة أي ردود مرتجلة.
مشكلة التعليم سبب التخلف
أعود بعد هذا كله لما أريد عرضه اليوم: مراحل التعليم المختلفة التي تسبق التعليم الجامعي في الكويت. من فضول القول إن بدء العلة في التعليم الجامعي هو ما يسبق الجامعة من مراحل الإعداد لها. ولا بد أن أكرر مرة أخيرة أن ليس غرضي هنا تحليل الأسباب ولا اقتراح الحلول، فما أنا برجل تربوي مختص؛ فضلا عن أن الحلول لا تأتي معلّبة جاهزة كعلب السردين! متى دفعتَ ثمنها ملكتها، وحُلّ لك استعمالها. فمشكلة التعليم العربي (لا الكويتي وحده) هي السبب الأول والآخر في تخلف العرب، وحلها يتطلب الصبر والمثابرة، وقيادة تتسم بالشجاعة والتجرد والصبر، وهي صفات أربع منعدمة الوجود في النظم الاجتماعية والسياسية في بلاد العرب! وقياداتنا هي جزء منا: تشاركنا نقائصنا بكافتها!
ماذا سنصدِّر للعالم؟
على الذين يضطلعون بإعداد الأجيال القادمة أن يتذكروا أن أسواق البترول ستتغير عما قريب، وأن الشعب، لأجل أن يكسب عيشه، عليه أن يصدّر للعالم ما يسد به قيمة استيراداته؛ فماذا ستصدر جيوش الكسالى من خريجي الجامعات العربية الى بلد كالصين أو الولايات المتحدة أو ألمانيا لسداد أثمان مستورداتها من هذه البلاد؟ خبروني يا أيها النيام الغافلون؟ كيف سيزاحم الشباب العربي طلابا وطالبات في جامعات الصين واليابان يعملون في المكتبات والمختبرات نحو عشرين ساعة من كل يوم! يا أيها المسؤولون عن الشعوب العربية، لقد آن لكم أن تستيقظوا من سباتكم الطويل العميق- إن استطعتم، ولن تفعلوا!
دراسات تليها دراسات
أما محاولات جريدة القبس في معالجة مشكلة التعليم في الكويت، وهو جهد حميد لا شك فيه، فمختصرها أنها رغبة في تسهيل مهمة المسؤولين، استدعت خبيرا عربيا كانت له خبرة عملية مباشرة عن مشكلة التعليم في الكويت، هو الدكتور فوزي أيوب، وقد استدعي إلى الكويت أكثر من مرة بين سنة 2003 وسنة 2013، وعقدت هيئة التحرير مؤتمرا خاصا لتبادل وجهات النظر في تشخيص مشاكل التعليم والحلول والتوصيات التي تمخضت هذه الجهود الجادة عنها. وقد نشرت القبس الكثير عن أعمال المؤتمر وتفاصيل توصياته، كما نشرت ملخص تقارير الدكتور أيوب الأربعة!، وقد تلقت القبس من قرائها ومن المعنيين في وزارة التربية والتعليم ردودا تستحسن ما جرى وما قيل، ثم تمخض الجبل.. فأجهض! ولم تسفر هذه الجهود الطويلة إلا عن تقارير انضافت الى ما سبقها من تقارير، هي بانتظار ما سيليها من تقارير.. ولم يكذب حدسي، فقد اشترت دولة الكويت، تقريرا جديدا من حكيم عليم (بثمن أجهله)، أعني بذلك المستر طوني بلير السياسي البريطاني الغني عن التعريف؛ غير أن هذه المحاولة بقيت كسابقاتها حبرا على ورق يحتفظ به في الأدراج. وكذلك كان حال ومصير الدراسة التي أعدها البنك الدولي عن حال التعليم في الكويت! ولم يصلح، ولن يصلح أي من هذه التقارير ما أفسدته الأيام من نظام التعليم الكويتي (ولا العربي)، لسبب محزن أليم – لأن الأمة تسبح في طخياء جهل لاحدود له، وأنكى من ذلك أنها لا تدري!
ولكن إذا كانت القبس قد نوت خيرا، وأحسنت بانتقاء الخبير، ودعته، وأنفقت بسخاء على جمع المؤتمر والدراسات الأربعة، ولخصت توصيات الخبير والمؤتمرين، وبلغت المسؤولين بما ينبغي اتخاذه من خطوات لبدء مرحلة الإصلاح، فأين وكيف أخفقت؟ للإجابة عن هذا السؤال، أستأذن القارئ الكريم بأن يكرمني بشيء من صبره الجميل: فالأمر لا يخلو من تعقيد لا بد من التصدي له هنا.
الحكومات لا تنفذ التوصيات
والغلطة الكبرى التي ارتكبتها القبس هي أنها حسبت أنه اذا يسرت هي للحكومة عملها، وقدمت التوصيات التي اتفق عليها الخبراء، بادرت أجهزة الدولة الى التوفر على درسها واختيار ما يمكن تنفيذه منها! هذا التقدير لرد فعل المسؤولين تقدير خاطئ، فليس في تاريخ الحكومات حكومة خفت الى تنفيذ توصيات اقترحتها مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني؛ فحتى في معقل الديموقراطية الحديثة في العالم، بريطانيا، يؤلف المتحمس للإصلاح (وهو هنا جريدة القبس) جبهة شعبية للضغط على الحكومة (الوزارة المختصة) وعلى اللجان البرلمانية المعنية بالمشكلة، تتولى شرح المشكلة مجددا، وتروج للحلول التي تريد تطبيقها، وإبطال ما يراد ابطاله من ممارسات الحاضر المعيبة. وتبرر ذلك، وتكرره في مراحل مختلفة، وتحاول محاربة صفتين معروفتين بين السياسيين وكبار موظفي الوزارة المعنية، وهي كره التغيير والبطء في قبول المقترحات الجديدة، وخاصة ما ورد منها من خارج المؤسستين المعنيتين نفسهما. هذه الغلطة في «التكتيك» هي التي قضت على محاولة القبس في مهدها. وهذا ما قد حصل ويا للأسف.
الإصلاح عمل سياسي
الإصلاح عمل سياسي ينفذ بمجهود سياسي، تُعبأ فيه القوى السياسية، وإن تكن الغاية تنفيذ أغراض غير سياسية، ولكننا نحتاج لتعاون الجهاز السياسي والماكنة أو الأجهزة الحكومية للتغيير. وهذا ما أغفلته القبس وما يغفله كثيرون من محاولي الإصلاح، فتبقى المشاكل وتستمر، وتنقلب إلى أزمات تتعاظم شيئا فشيئا، حتى تنتقل للشارع، فتسود الفوضى وتبدأ التظاهرات وتعصف بالمجتمعات العربية أعاصير التطرف والجنون، والأمر لله!
المصدر: جريدة القبس
قم بكتابة اول تعليق