جاسم بودي: ماذا ينقص الكويت

بين ما يميز الكويت عن غيرها، عبورها السنوي موسم «السرايات»… فجأة يغبر الفضاء ثم يصفر ثم تعود الشمس ثم تصفو السماء ثم يجرحها البرق ويوترها الرعد وتدمع مطرا عشوائيا ثم تعود الأجواء إلى ما كانت عليه «ولا كأنه صار شيء».
عندما تهدأ الأمور يستحق السؤال: ماذا ينقص الكويت كي لا يكون المشهد العام فيها دائما مثل السرايات؟ لماذا لا تكون «سرايات» السياسة مثل «سرايات» الطقس مرحلية وموسمية واستثنائية؟
كي نكون منصفين نستهل الاجابة بالحمد والشكر لله رب العالمين الذي حبا الكويت خيرات وفيرة وثروات كبيرة وشعباً طيبا مسالما تفاعل حضارياً مع حكامه وأنتج صيغة وطنية على رأسها دستور وفي طياتها حريات عامة وديموقراطية ومشاركة شعبية في السلطة والثروة.
لا لزوم لتكرار ان كل ما حصل من انتفاضات شعبية في العالم العربي وقبله في المنظومة الاشتراكية انما كان على قاعدتين: المشاركة السياسية والتنمية الاجتماعية. أناس حرموا من أبسط حقوقهم السياسية وخضعوا لآلة القمع وتكميم الأفواه إضافة إلى إجبارهم على العيش تحت خط الفقر كون العوائد تذهب الى خزائن النظام والى إفساد الحاشية المحيطة بالنظام. تتغير الأنظمة وتنكشف البلاد على خراب شامل رغم حديث أعلام الحزب الواحد عن «إنجازات»، وينكشف العباد على خواء ثقافي سياسي لانعدام التجربة فيرتبكون في السلطة والادارة.
بهذا المعنى، ربيعنا قائم منذ قيامة الكويت حتى وان كانت الامور نسبية، ولا شك في أن الحركة الشعبية الوطنية على مر العقود السابقة نجحت في منع «تخريف» الربيع أو «تشتيته» بفضل صمودها وتمسكها بالثوابت الدستورية واهمها المشاركة وقيم الحرية والديموقراطية والمجتمع المدني… ومع ذلك يستمر السؤال: ماذا ينقص الكويت؟
خير وفير والثروات غير المستخرجة أكثر من المستخرجة. بحبوحة مالية وعوائد نفطية. كوادر بشرية. إمكانات استيعاب كبيرة للمشاريع والطاقات والخبرات المحلية والأجنبية. نظام سياسي مستقر رغم كل ما نراه ونشاهده لأن التوافق «خلطة الكويت السرية». اهتمام استثنائي من الدولة بمواطنيها في التعليم والسكن والصحة والتوظيف والرعاية بوجهها العام…
لسنا في وارد التعداد. هي عناوين عامة لا يكفيها مقال، ولسنا في وارد تشريح كل عنوان لمعرفة مساراته وما اذا كانت نتائجه سليمة سواء في الاسكان أو الصحة أو التعليم أو التوظيف أو غيرها، انما نقول إن ما تقدمه دولة الكويت في هذه المجالات لا تقدمه دولة اخرى.
ماذا ينقصنا؟
الادارة هو ما ينقصنا. الكويت عانت وتعاني من أزمة إدارة مصحوبة بشكل أساسي بغياب التخطيط. تطورت الدولة وتغير العالم وبقيت عقلية الادارة عندنا كما كانت قبل عقود. نبني مطارنا ليومنا لا للمستقبل ومن دون اي رؤية لما يمكن ان تكون عليه حركة السفر بعد 20 عاما كي لا نقول عاما أو عامين. ثم نبدأ التوسعة فتوسعة فتوسعة ثم نفكر في مطار آخر وبموقع آخر. مثل بسيط ينسحب على كل قطاعات الدولة.
والإدارة علم، لكنها ليست كوكبا منعزلا عن الطاقة البشرية وامكاناتها. فالادارة عقل ورؤية وتخطيط وتنفيذ ومتابعة واياد نظيفة. لذلك ان لم يكن الرجل المناسب في المكان المناسب بغض النظر عن أمراض الواسطات الكويتية المبنية على حسابات الولاءات والثقة والانتماء الطائفي والقبلي والمناطقي، فالإدارة لا تستقيم ولن تستقيم. وان لم توصل الحكومة اصحاب الخبرة والعلم الى الوزارات والادارات، وان لم يوصل الناخبون القادرين الأكفاء الى قاعة عبد الله السالم… فالكلام ليس له معنى.
والادارة وجه آخر للقانون وليست وجها لانتهاك القانون كما يحصل في الكويت، وقد تكون الكويت من الدول القليلة في العالم التي تلعب فيها الواسطة دورا في تطبيق القانون تماما كما تلعب دورا في انتهاكه. ومن علامات غياب الادارة ان المواطن يلجأ الى نائب أو وزير أو جهاز أو وكيل أو امير قبيلة أو شخصية سياسية لتمرير معاملة قانونية مئة في المئة لكن مسالكها ودروبها معقدة.
وبالتوازن مع الادارة وفوقها، الكويت ينقصها قرار. في كل دول العالم تؤخذ القرارات في أوقاتها وفي مساراتها، وليس بالضرورة ان تكون نتائجها سليمة مئة في المئة. لكن القرار وتحمل مسؤوليته ومتابعة تطبيقه بجدية كلها من عناصر هيبة الحكم… من دون الحاجة طبعا للتأكيد بأن القرار يجب أن تكون منطلقاته مصلحة الكويت ولا يخضع لأهواء شخصية أو محاباة أو مسايرات خاصة هنا وهناك.
وبين الادارة (التخطيط) والقرار، عنصر لا يقل أهمية إنما يحتاج وقتا قد يمتد لجيل قادم. تغيير ثقافة الاستهلاك عند عموم الكويتيين الى ثقافة انتاج. بل ربما لا نبالغ إذا قلنا إن النمط القائم حاليا يحتاج الى ثورة حقيقية رسمية وادارية ونفسية وشعبية وفكرية. طبعا التعميم جريمة هنا لكن ثقافة الاستهلاك صارت سمة النظام العام… بدءا من التوظيف وانتهاء بكل شيء. ولا شك في ان تغيير هذه الثقافة يقع في صلب مسؤولية الجيل الشاب الذي يرفض التخلي عن دوره التاريخي للعبور الى مستقبل واعد.
الكويت ينقصها الكثير الكثير، لكن هذه العناصر الثلاثة كفيلة ان تشكل المدخل الحقيقي الى الاصلاح. هي الاساس الذي يحمي القواعد والجدران والسقف ويفسح في المجال لإصلاحات أخرى أن تتم داخل أجواء صلبة… أجواء ثابتة صلبة لا تعيش يوميا مواسم السرايات.

 

المصدر: جريدة الراي

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.