عبدالله بشارة: مسز تاتشر.. في بيت الكويت

من التعليقات التي صدرت من قراء الصحافة البريطانية حول الارث السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تركته البارونة تاتشر بعد ان قادت بريطانيا لمدة احدى عشرة سنة، رسالة معبرة بعثها أحد القراء الى صحيفة لندن تايمز، يقول فيها (من يولد في بقالة ويموت في فندق الريتز لابد ان يكون صاحب سجل مبهر) بايجاز تطوي هذه الكلمات القصيرة عقدا من الزمن تولت فيه السيدة تاتشر قيادة بريطانية في ظروف صعبة، وقد دشنت رحلتها كرئيسة للوزراء في كلمات قصيرة، عندما وقفت على عتبة مقر رئاسة الوزراء في عام 1979، قائلة (سيسود الوئام ويختفي التناحر).
هذه أول كلماتها في تعليق واضح على أزمة الاضطرابات التي بدأها عمال المناجم في ويلز في شمال بريطانيا احتجاجا على قرار حكومة اغلاق عدد من مناجم الفحم ذات الكلفة العالية، ورفض العمال الانصياع لهذا القرار.
جاءت السيدة تاتشر بقرار حازم لمعالجة مسببات الأزمة التي تسيدت الوضع في بريطانيا منذ منتصف الستينيات والتي أفرزتها الوسائل التي استخدمتها حكومات كل من العمال والمحافظين في علاقاتهما مع اتحاد العمال.
كانت الوسائل هي استرضائيات بزيادة الامتيازات العمالية بنسبة %35 من أجل ان يقبل العمال قرار الحكومة بتشغيل المناجم لمدة ثلاثة أيام أسبوعيا حفاظا على البيئة.
أدت سياسة الترضيات الى ارتفاع معدلات التضخم بسبب العلاوات التي أعطيت لاتحاد العمال وتعاظم نفوذهم في رسم السياسة الاقتصادية، وقد أدى ذلك الى ارتفاع الأسعار مع استمرار التهديدات باللجوء الى الاضرابات.
هنا جاء قرار السيدة الحديدية بمواجهة اتحاد العمال، فأنهت سياسة الترضيات، وواجهت اتحاد العمال الذي يرأسه زعيم العمال أرثر سكارجل – Arthur Scargill، وسخرت امكانات رجال القوات المسلحة لتجاوز الشلل، ومع حلول 1984، استنفذ العمال قوة التحدي، وانتهى عصر الاضراب وطويت السيدة تاتشر فصل الفوضى والاضطرابات وبدأت مسيرتها في فرض الانضباط وهيمنة أحكام القانون.
هذه أول المقتطفات التي يمكن ان نتوقف عندها في الكويت لفحص متاعب التبذير، التي تتجاوب معها الحكومة في علاوات تصاعدية لا نهاية لها، تزيد من أعباء الخزينة العامة، لكن أخطر مولداتها هي الاتكالية التي جعلت المواطن مرتهنا لاعطاءات الدولة، لا يعتمد في حياته على مؤهلاته كانسان ولا يوظف مواهبه البشرية، ويمكن القول بأن مسز تاتشر في هذا المنعطف، تقدم مثالا لايمانها بأن الناس يولدون متساوين، وأن كل انسان قادر على ان يعيش بكرامة مستقلا عن حضن الدولة، والفرق ان هناك من يملك ارادة المواجهة في عزمه على تجاوز واقعه، عبر التعليم والانضباط وحيوية العقل والتوجه نحو أبواب المعرفة والاكتشاف والفضول في الازدياد من منافع التعليم ومواكبة التحولات التكنولوجية.
ومن هذا الالتزام الذي رافق حياة تاتشر وايمانها بقدرة الفرد على التفوق تكاثرت عليها أعداد الخصوم الذين يرتاحون للرعاية الاجتماعية الحكومية، الى حد ان يقول سكرتير اتحاد المناجم في مدينة ديرم Durham، بأن وفاتها التي تزامنت مع عيد ميلاده جاءت بأفضل هدية.
هناك مثال معروف في حياة الانسان على ان صاحب القرار الحيوي لا يسلم من الاعداء، فيقولون في أدبيات السياسية بأن كل قرار يفرز خصومات To decide is to divide، ولم تكن السيدة تاتشر تتوقف عند انتقادات الخصوم، فالتاريخ سجل بأنها تركت بريطانيا في وضع اقتصادي قوي، وبدون اضرابات، مع خصخصة في مرافق الخدمات، كما تركت بريطانيا على درجة عالية من النفوذ على الساحة العالمية، وسجل التاريخ بأنها وعبر الائتلاف مع الرئيس الأمريكي ريجان، ساهمت في نعي الامبراطورية السوفيتية في نهاية النظام الشيوعي في كل أوروبا.
وبكل تأكيد لا يوجد زعيم بريطاني في الساحة البريطانية قادر على اتخاذ حرب تحرير جزر فوكلاند، بعد احتلالها من الارجنتين، وهي بقعة تبعد آلاف الأميال عن بريطانيا، لكنها القيادة التي لا تعرف التردد في ايمانها بحقوقها ولا تتردد في توظيف آليات القوة لاسترجاع مكانة بريطانية في تلك الجزر البعيدة.
كانت البارونة تاتشر تردد دائما بأن على كل انسان ان يتحمل نتائج عمله ومواقفه، فلا مكان للدلع في أمور تخص الاستقرار وأمن الأوطان وسيادة القانون وضبط الانسجام الاجتماعي والحفاظ على السلم الأهلي في داخل كل مجتمع.
وهنا نتعلم منها الكثير في قضايات التحديات التي ترافق تصرفات عناصر المعارضة التي تتصور بأنها فوق القانون عندما تخطئ وتدعو الى تطبيقه عندما يروق لها هذا التطبيق.
فعندما تتعرض الدولة للمواجهة في الهيبة والمقام والتحدي في حكم القضاء والقانون، لا مكان للاستعراضات السيريالية، هذه رسالة واحدة من كتاب التراث الذي خلفته السيدة تاتشر، ومثال على جديتها وحزمها، فقد احتج أحد المعارضين المنتمين الى جيش ايرلندا الجمهوري على اعتقاله واسمه روبرت ساندرز Robert Sands، وطلب ان يعامل كسجين سياسي بامتيازات مريحة، لكنها رفضت ذلك، فاضرب عن الطعام، ومات متأثرا من الاضراب، مما سبب اتهامات لها بالقسوة وغياب المشاعر، لكنها لم تهتم بتلك الأقوال.
في مذكراتها (سنوات في شارع الرئاسة –The Downing Street Years) خصصت البارونة فصلا كاملا عن أحداث الغزو، بعنوان «لا وقت للتردد» وتشير بأنها كانت في مؤتمر في كولارادو في وسط الولايات المتحدة عندما انفجرت الأحداث مع الغزو، وأن أول ردة فعل لها بأنه لا مجال للمساومة ولا أنصاف الحلول، وفي أول لقاء لها مع الرئيس بوش حول الغزو بدأت هي في الحديث عن ضرورة مواجهة الغزو، ولم تترك للرئيس بوش مجالا للمناقشة، مع أنه أخبرها بأنه تلقى مكالمة هاتفية من الرئيس حسني مبارك والملك حسين يخبرانه باحتمالات الحل العربي، ومكالمة أخرى من الرئيس اليمني علي عبدالله صالح، وصفتها «بقلة الذوق» حيث يقارن غزو العراق ضد الكويت بالتدخل الأمريكي في غرناطة، الجزيرة الماركسية الصغيرة، مما أزعج الرئيس بوش، وتضيف بأنها أخبرت الرئيس الأمريكي بأن اليمن لم يصوت مع قرار مجلس الأمن في الانسحاب وعودة الشرعية.
تقول السيدة تاتشر بأنها عقدت اجتماعا مغلقا مع الرئيس بوش استمر لمدة ساعتين، وجدته حازما وعازما على مواجهة الغزو، وأن هاتين الساعتين غيرتا الأحداث بتأكيد الالتزام بتحرير الكويت.
في عام 1995، جاءت السيدة تاتشر الى الكويت بدعوة من سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد، وكانت المناسبة أظهرت فيها الكويت بكل مؤسساتها الحاكمة والشعبية والأهلية مشاعر العرفان والتقدير وتثمين المواقف للضيفة المميزة.
وقد رتبت جمعية الصداقة الكويتية – البريطانية حفلة استقبال لها في فندق ساس في منطقة البدع، تحدثت فيها شخصيا بالتعبير عن سعادة المواطنين برؤيتها تتجول بين صفوفهم رافعين أصابعهم نحوها بالتصفيق والهتافات الصادقة، وكانت السيدة تاتشر في تلك الحفلة، التي شرفنا فيها سمو الأمير، عندما كان نائبا لرئيس الوزراء ووزير الخارجية، تتحرك بسعادة وانشراح في المشاعر، وتحدثت مع الجميع، ونيابة عن الحاضرين، رحبت بها في خطاب عام أبرزت دورها في تحرير الكويت مع التزامها بحكم القانون ووفائها لميثاق الأمم المتحدة، وعندما انتهت من كلمات الترحيب سمعت صوت زوجها المستر تاتشر، الذي كان جالسا بجانبها، يقول لها بأنها متعبة وليس من الضروري ان تتحدث، فترد عليه بقوة لا لا هذه مناسبة لا يجب السكوت فيها، فتحدثت في تلك القاعة الواسعة بكل رحابة، يغمرها السرور والابتهاج، كانت سعيدة جدا من لمسات المحبة المتدفقة.
بعد تلك الزيارة، زرتها في لندن مع السفير القدير المتجدد خالد الدويسان، في منزلها الأنيق وسط لندن، كانت في وهج الاناقة الذي رافقتها دائما، وأتذكر بأن أول سؤال منها عن سمو الأمير المرحوم الشيخ جابر، وعن صحة ولي العهد المرحوم الشيخ سعد العبدالله، ورغم أننا جلسنا نصف ساعة معها، لم تتحدث في السياسة وانما عن الكويت وأحوالها، وكانت دائما تردد غضبها من قرار الرئيس بوش بوقف الحرب قبل ان يستسلم صدام حسين، الأمر الذي أنقذه من مصير يستحقه، كانت تردد بأن هذا قرار غير مفهوم وفق حسابات السياسة.
ورغم خروجها من ممارسة أمجاد القوة، الا أنها على معرفة بأن التاريخ قيد اسمها وانجازاتها في سجل المشاهير في حياة بريطانيا، الذين ساهموا في تحويل مسار الأحداث.
في تاريخ الكويت يقف السجل البريطاني شامخا في وقاية الكويت من أشرار الجوار منذ 1899، وتواصلت الرعاية البريطانية وعندما غابت عن سماء الكويت، جاء الغزو المدمر، وتصرخ السيدة تاتشر بقوة داعية الرئيس جورج بوش الى التحرك، ويعود المجرى البريطاني الى سماء الكويت، ويرتاح أهلها مطمئنين من متانة الالتزام ومن أمانة الملتزمين.
وتخرج السيدة تاتشر من ضوضاء الحياة الى موكب الباقين الغائبين الذين يشغلون الناس في الاقتباس من سيرهم، وتبقى سيرة البارونة تاتشر حاملة مودة دائمة من شعب الكويت.
عبدالله بشارة
رئيس المركز الدبلوماسي للدراسات
المصدر جريدة الوطن

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.