لمى العثمان: محمد عبدالقادر الجاسم والدرس الخصوصي


كانت كلمة “التيار التقدمي” في الحلقة النقاشية التي أقامها بعنوان “لا للعبث في المادة 79 من الدستور… نعم للدولة المدنية” كلمة رائعة وموفقة، ولكن الحوار الذي بدأ به الأستاذ محمد عبدالقادر الجاسم حول رأيه بأنه لا داعي للهلع والجزع من أسلمة القوانين أعادنا للصفحة الأولى من تاريخ الإسلام السياسي.
نعم نقلق على مستقبلنا ومستقبل أطفالنا من العبث بركائز الدولة المدنية، لأن التاريخ الإسلامي حجتنا وهو الشاهد على التجربة الاستبدادية والدموية التي استمرت 13 قرناً، ولأن الحاضر كذلك حجتنا وهو الشاهد على الاستبداد والاستعباد في النماذج المجربة من حولنا حتى تلك التي تسمى ديمقراطية زوراً وبهتاناً، لأن هناك فرقاً بين الإسلام الدين والإسلام السياسي، ولأن هناك فرقاً بين الدولة الديمقراطية والدولة الثيوقراطية.
يقول الأستاذ الجاسم “إن الاقتراحات ذات الصبغة الإسلامية لا تتجاوز 4 اقتراحات… وإنه يجب ألا ننطلق في تقييمنا لتلك الاقتراحات من حالة خصومة أو عداء مع الشريعة الإسلامية”. وردي على الأستاذ بأنه لم تكن أبداً المطالبة بدولة مدنية تسمى عداء للشريعة الإسلامية! فلا أحد يحتكر التفسيرات البشرية المتعددة للدين، واحتكار التفسير وجعله حقيقة مطلقة يجب فرضها على الجميع تسمى أصولية وعدائية صارخة للديمقراطية والدولة المدنية.
لا هي ليست خصومة مع الدين كما يصور الأستاذ الجاسم، بل هي دفاع عن الانتماء الديني للأقليات والحقوق المدنية والمواطنية للجميع، وهي دفاع عن جوهر ولب الديمقراطية المتمثل بالمادة 175 التي تقر بعدم جواز تنقيح الدستور ما لم يكن التنقيح خاصاً “بالمزيد من ضمانات الحرية والمساواة”… تلك المادة بالذات هي التي عمل التيار الديني بتحالفه مع السلطة وتعاونه معها لسنوات عجاف على خنقها حتى الموت في تشريعاتهم المخالفة للدستور والمضيقة للحريات، لذلك لا يمكن تبسيط المسألة وتسطيحها بالقول إنها مجرد 4 قوانين فلا تهلعوا أو تجزعوا! وهل يستقيم الحديث عن دولة مدنية أو ديمقراطية حقيقية أو عدالة اجتماعية دون الاعتراف بالقيم الليبرالية من حريات وتسامح وتعددية تحمي حقوق الأقليات؟ ولا عزاء للديمقراطية الموءودة في مهدها.
الأستاذ الجاسم يشيد في مقاله “درس خصوصي” بشرح الأستاذ أحمد الديين لمعنى “الليبرالية” التي يجب أن تكون “درساً خاصاً لبعض الرجال والنساء ممن يتشدقون بانتمائهم لليبرالية من دون فهم واستيعاب معناها!”… ولكن لم يوضح لنا ماهي الليبرالية التي يقصدها، هل هي الليبرالية الكلاسيكية التي سقطت كما سقطت الشيوعية سقوطاً مدوياً؟ أم الليبرالية الاجتماعية (أو الاشتراكية الليبرالية) التي تعتبر اليوم نموذجاً ناجحاً على أرض الواقع في الدول الأوروبية لاسيما الدول الاسكندنافية التي وازنت بين الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية، فكانت سبباً في استقرار ورفاهية مجتمعاتها؟
ولكن كتاب “درس القرن العشرين” للفيلسوف كارل بوبر يختلف عن “الدرس الخصوصي” الذي تكلم عنه الاستاذ الجاسم في مقاله.. يتحدث بوبر عن بؤس الأيديولوجيا التي تتنبأ وتضع للمستقبل حتميات ويقينيات ونهايات… أخذ الدروس من الماضي هو أمر في غاية الأهمية، لكن تحديد المستقبل كصيرورة حتمية اعتماداً على تفسيرها التاريخي (التاريخانية) والجزم المطلق بمسار المستقبل كما تقول الشيوعية هي في رأي بوبر نظرية شمولية غير علمية تلتقي والأصوليات الأخرى بدوغمائيتها وانغلاقها وحقيقتها المطلقة بقوانين الصيرورة التاريخية المعروفة مسبقاً دون الأخذ في الاعتبار تأثير المعرفة الإنسانية على تطور التاريخ ودون الاعتراف بنسبية الحقائق وتأثير الثورات المعرفية غير المتوقعة على مسار التاريخ، فالمصير التاريخي يتأثر بالتطور المعرفي المتراكم الذي لا يمكن التكهن به في ماض لا يملك أدواته بعد.
هكذا هي الأصوليات بكل أنواعها تحمل بذور فنائها في أحشائها، لأنها تفسر المستقبل بأدوات الحاضر الذي سيصبح ماضياً وتضع له نهايات تسعى إلى تحقيقها، فتفشل على أرض الواقع كما فشلت نماذج الدول الدينية والشيوعية، فهي مجرد أمنيات تنظيرية طوباوية قد تقلب الأحلام إلى كوابيس ان حاولت تسيير التاريخ حسب حقائقها المطلقة… ولا عجب أننا خارج التاريخ.
المصدر جريدة الجريدة

1 Comment

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.