تقترن القراءة في أذهاننا العربية بالثقافة, فينظر عامة الناس إلى من يقرأ الصحيفة يوميا على أنه مطلع, وينظرون إلى من يقرأ المقالات الصحافية على أنه صاحب رأي, وينظرون إلى من يقرأ القصص على أنه فاهم, فيكون الكتاب عند غالبية الناس بمثابة الأداة التي يتصورون أنها تمكنهم من دراسة صفحات الحياة على تشعبها, وبالمثل يظن كثير من المؤلفين العرب, فيتصورون أن من مهمات الكاتب إن لم يكن أحد أهدافه أن يثقف القارئ, فيقذف بالمعلومات في كتابه هنا وهناك, ويحرص على الهدف التربوي فيبطنه في قلب الرواية مرة ويظهره في صدرها مرات أخر, ويحق الحق ويعاقب المخطئ على غرار ما فعل كتاب كثيرون في عالمنا العربي.
وأكثر ما أذكر كمثال على هذا رواية “الحب الضائع” لطه حسين, وقد كنت لا أزال طفلة عندما اخترت أن أقرأها, ولم يزل سؤال يراودني عن نفسه كلما تعرضت للفيلم على شاشات القنوات الفضائية: لماذا اختار طه حسين قتل الصديقة التي خانت صديقتها مع زوجها وأحبته وقبلت حبها له بعد مقاومة? لماذا رأى طه حسين أنه من الأفضل أن تقدم الصديقة الحبيبة الخائنة على الانتحار في نهاية الرواية, فكأنها بهذا استحقت عقاب الموت على خيانتها لصديقتها, وفي الوقت نفسه اختار كاتبنا أن تهجر الزوجة المخونة زوجها الخائن لينتهي المطاف بالزوج أن يكون خاليا من حب وخاليا من أسرة, وكأنه بهذا استحق الوحدة كعقاب أيضا, في الوقت الذي كان يستطيع طه حسين أن يختار نهايات متنوعة كأن يرمم الزوج حياته الزوجية على أن يستمر في حبه أو خيانته, أو أن يتزوج الحبيبة سرا كان أو جهرا, أو أن يختار إحداهما ويرضى بخسارة الأخرى, إلا أن النهاية الفعلية للرواية تتخذ النهج ذاته الذي يسير عليه كثير من الكتاب العرب, فيظنون أن في الكتابة عظة وتوعية ودرسا وجب عليهم الدعوة إليه ونشره.
وفي رأيي فإن هذا السبب تحديدا ¯ بالإضافة إلى غيره من أسباب كثيرة ¯ وراء حقيقة أن الأصغر سنا في المجتمعات العربية يعزف عن القراءة, لأننا بطبيعتنا البشرية لا نقبل على ما نظن أن فيه قليلا من متعة, فيكون فعل القراءة ثقيلا على نفس الشاب ومجهدا لعقل الشابة كالواجب الذي يجب إتمامه.
في الوقت الذي تحقق فيه القراءة أكثر الإيرادات في أوروبا واميركا خصوصا فيتحول مؤلف الكتاب الناجح إلى أحد المشاهير الذي يحفظ الناس اسمه وشكله, ويتردد كتابه في أزقة المجمعات التسويقية وأرصفة ساحات الانتظار في المطارات الدولية, ومقاعد الباصات ومترو الأنفاق وغرف الانتظار في المستشفيات وغيرها كثير, وبهذا يتحول المؤلف إلى مليونير أو صاحب ملايين إذا ما فكرت هوليوود أن تقتبس قصته لتضعها في فيلم يحقق له انتشارا عالميا أكبر, فتزداد مبيعات كتابه الأصلي أكثر, حتى بعد أن شاهد الناس الفيلم المقتبس عنه.
لأن أول أهداف تأليف الكتاب عند أغلب المؤلفين الأميركيين هو تحقيق الربح المادي, وأول الأهداف عند أغلب المؤلفين الأوروبيين هو تحقيق الفوز الأدبي, نجد أن كلا النهرين يصب في بحر واحد وهو احتراف الكتابة بشكل “ممتع” أو “حقيقي” أو الاثنين معا, فتجد كتبا في الرياضة وكتبا في فن الكروشيه وأخرى في المصارعة والكاراتيه, وغيرها في الخيال العلمي, وكتبا في الجنس والرعب والحب والعنف والجريمة وغيرها, فيكون الكتاب كالمحاكي للواقع والمترجم للإحساس ولكن بأحرف على ورق, ولهذا تجد في أوروبا من يقرأ في عمر الخمس سنوات والخمس عشرة والخامسة والعشرين والخمسين والثمانين رغم تكنولوجيا الاتصال وانتشار وسائل التسلية وإضاعة الوقت, وذلك لأن القراءة ببساطة شيء “ممتع”.
h_alhuwail@yahoo.com
المصدر جريدة السياسة
قم بكتابة اول تعليق